هل يمكن النظر إلى مخرج بأنه {حالة}، وأنه يملك خصوصية تجعل منه مبدعاً متفرداً يُحلق بعيداً عن السرب، وفي لحظة غير متوقّعة ينقض ويقتنص الجوائز ثم يعود، بكل تواضع، من حيث أتى؟

Ad

محمود سليمان هو المخرج {الحالة}، {القناص} و}المُغرد خارج السرب}، الذي فوجئ به الجميع عندما اعتلى منصة التتويج، في ختام الدورة الثانية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، ليتسلم جائزة أفضل مخرج وأفضل فيلم غير روائي عن فيلمه التسجيلي الطويل {أبداً لم نكن أطفالاً} (الإمارات العربية المتحدة،  مصر، قطر ولبنان/ 2015). وقبل أيام قليلة انقض،  كعادته، وانتزع جائزة النيل الكبرى لأحسن فيلم تسجيلي طويل في الدورة الخامسة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية. وأكد المخرج مجدي أحمد علي، ممثل لجنة التحكيم الدولية، أن الأخيرة منحت سليمان الجائزة بالإجماع {لموضوعه الإنساني الذي يعكس أحوال مجتمعه عبر جيل كامل، ومثابرته ودأبه الشديد على تحقيق موضوعه بحس فني متميّز من دون الوقوع في فخ الميلودراما واليأس وافتقاد الكرامة الإنسانية}.  

تنويه لجنة التحكيم، ضمن حيثياتها، إلى {المثابرة} و}الدأب} لم يأتِ اعتباطاً، فما يجهله كثيرون أن {أبداً لم نكن أطفالاً} (99 دقيقة) يأتي ضمن سياق {مشروع} أو {حلم} بدأه محمود سليمان عام 2003 بفيلم {يعيشون بيننا}، التقى خلاله امرأة تدعى نادية سيد حسن هجرها زوجها المدمن تاركاً لها أربعة أطفال (خليل، نور، محمود وأمينة)، فما كان منها، كي تعولهم، سوى أن جابت الشوارع حاملة على كتفها آلة شحذ الأسلحة البيضاء (المقصات والسكاكين والسواطير). لكن المخرج لم ينظر، كأقرانه من المخرجين، إلى المرأة كـ}ظرف طارئ} أو {سلعة انتهى عمرها الافتراضي} بمجرد أن تحقّق تصوير {يعيشون بيننا}، إنما استمر في متابعتها والاطمئنان على أحوالها، وأولادها، وكأنهم أقاربه من الدرجة الثالثة. ونتيجة هذا الاقتراب الحميمي، واستشعاره الخطر مما حصل للمرأة، وأولادها، اتخذ قراراً بعودة الكاميرا إلى الدوران، وفي ذهنه ألا يكتفي برصد الأحوال المتردية للعائلة، بل يرصد أحوال مصر خلال العشر سنوات الأخيرة، والأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى تدهور صحة {نادية} واختفاء {نور} وإحباط {خليل}، بسبب البطالة.

وتعامل المخرج مع المتلقي الذي يتابع أحداث فيلم {أبداً لم نكن أطفالاً} باعتباره وافداً جديداً لم يشاهد {يعيشون بيننا}، من ثم راح يُذكره بالفيلم القديم، عبر مقاطع يتحدث فيها رئيس الوزراء عن {التزام الحكومة بحماية محدودي الدخل}، وقصة زواج وطلاق {نادية} من رجل يكبرها بخمس عشرة سنة، وتمزيق أمها ملفها في المدرسة، لتكتفي بأن تصبح {ساقطة ثانوية}. لكنها لم تستسلم وتعلمت مهنة شحذ الأسلحة البيضاء، وتزوجت مدمناً، وواجهت، وأولادها، الواقع الصعب، متسلحين بأغنية {على عش الحب} للمطربة شادية، وكلماتها المتفائلة: {عارفين سكتنا سوا.. وحنوصل بيتنا سوا.. وننام ونقوم على حب في حب}!

هكذا كانت حال {نادية} في زمن غناء الأطفال بالمدارس {نعيش ونموت لمصر}، وشدو أم كلثوم {من يحبها مثلي أنا}، قبل أن تتغيّر الظروف، وترتدي الطفلة {أمينة} الحجاب وهي في الحادية عشرة من عمرها، ويُجبر {خليل} على مغادرة المدرسة ليعمل، ويستولي والده على قوته، وتتعرّض {نادية} لابتزاز الزواج، وانفضاض الأولاد، وتتراجع الأحلام والطموحات قبل أن تنتعش مجدداً مع اندلاع ثورة يناير 2011، التي تدفع {نادية} إلى التخلي عن لقمة العيش نظير الحرية والكرامة. ومع تلاشي الحلم ينتابها الإحساس بالظلم، ويُلخّص {خليل}، الذي تحول إلى مدمن و}طبال}، ما جرى من إخفاق بقوله {قطعنا ذيل الحية وتركنا رأسها}!

لم تنقذ {الثورة} الأم {نادية} من العمل كخادمة، والابن {نور} من هجر المنزل، بعد أن اتهمه شقيقه بالشذوذ، و}ماتت كل حاجة حلوة}، حسب تعبيره، وتحوّل أصغر الأبناء {محمود} إلى سائق توك توك، وبسبب {الثورة} جاء {الإخوان} إلى سدة الحكم، قبل السقوط الكبير بفضل الهبة الشعبية، وآثر {خليل} النوم عن السير في جنازة أبيه، رغم تطلّعه إلى أن يصبح {ديكتاتوراً} مثله!

 باستثناء بعض التطويل (مونتاج: دعاء فاضل وإيمان سمير) أبدع محمود سليمان، الذي كتب السيناريو وأدار التصوير وشارك في الإنتاج مع نيفين عفيفي، في تكثيف الشعور بخطورة الحاضر، وغموض المستقبل، وقدّم تجربة أقرب إلى {الدكيودراما} - الدراما الوثائقية – توصّل من خلالها إلى بناء سردي مثير وبصري شيق، وإن كنت أتحفظ على النهاية التي تحدث فيها {خليل} إلى المخرج، وحذّره خلالها من أن إحباطه قد يقوده إلى الانضمام إلى {داعش}، وعندما سأله المخرج إن كان يوافق على قتل الناس فيجيبه: {أنا كده كده مدبوح}. فأي نهاية هذه لفيلم أهداه صاحبه {إلى كل الذين ضاعت أحلامهم من دون ذنب}!