قامة لا تعرف الانحناء

نشر في 15-02-2016
آخر تحديث 15-02-2016 | 00:00
 فوزية شويش السالم يهل علينا شهر فبراير دائماً بأضوائه وأفراحه واحتفالاته التي تحمل معها الذكرى العظيمة ليوم تحرير بلادنا الكويت وعودتها لنا وعودتنا لها كوطن ومواطنين، بعد أن كنا قاب قوسين أو أدنى من ضياعها وضياعنا، لكن بفضل الله وكرمه أعادها لنا وأعاد مواطنتنا لها.

وفي كل ذاكرة تمر لـ "فبراير" لابد من أن نذكرها، تلك المرأة الشابة ذات القامة التي لا تعرف الانحناء، امرأة لن يجود بمثلها الزمن مرتين، فمن النادر والغريب تكوينها، ولا أدري كيف تشكلت وتكونت في البيئة ذاتها التي تكونا منها وشربنا العادات والتقاليد التي تربينا عليها ذاتها، لكننا لم نصبح مثلها، فمثلها نادر وعلامة فارقة لتاريخ وزمن الكويت التي هي بطلتها المضحية المنقذة، جادت بروحها وحياتها لأجل وطن عشقته حتى الذوبان ولأجل ترابه الغالي.

لذا لا يأتي شهر فبراير من دون أن نذكرها، فهي من أهدتنا هذه الأفراح والاحتفالات التي نعيشها بذاكرة هذا الشهر المحملة بذاكرتها، أسرار القبندي الشهيدة البطلة التي أدهشت العالم ببطولتها، وانغرست بداخلي كسيف حتى سيطرت عليّ واحتلت ذاكرتي التي بدأت تتساءل وتنبش عنها في كل مكان حلت به وبكل من عرفها واقترب منها، الكل معجب بها وببطولتها الفذة غير العادية، لكن لا أحد استطاع أن يدرك  حقيقتها، لا أحد لامس مكونات شخصيتها وأدرك مفاتيح شفرتها، وهو ما كنت بحاجة ماسة إليه حتى أعرف العوامل التي دخلت في تشكيلها وتكوينها على هذه الصورة التي باتت عليها ولا يضاهيها مثيل لها بأي شكل كان حتى ولا يكاد يقترب منها، فالفجوة واسعة جدا ولا يرتقي إليها أحد غيرها.

لذا حين اشتد زحامها بداخلي وشعرت باقترابها من بوابة الخروج لعالم الكتاب، بدأت ساعتها بالكتابة عنها حتى تنفصل مشيمتها عني، فمن شدة إعجابي بها سكنتني لشهور عديدة كنت أنام وأصحو بها وبرفقتها الدائمة، حيث كانت معي وأنا أبحث عنها وأطرق الأبواب في محاولة للاقتراب من منبعها الذي كوّنها وشكلها بهذه الصورة الخارقة المحيرة.

وكل أسئلتي عادت محملة بالخيبة من كل باب طرقته حتى دفعني اليأس إلى التخيل، كانت هناك كل الوقائع التي قامت بها والمثبتة في الأقراص المدمجة والمدونة، وقد استفدت منها كثيراً، لكنني كنت في عطش لمعرفة مكوناتها النفسية التي بنتها على هذا الشكل البطولي الخارق، خاصة في لحظة خروجها الأخير من الكويت، وكان من الممكن أن يُكتب لحياتها سيناريو آخر تعود فيه إلى الكويت المحررة كوزيرة أو في أي منصب مهم آخر، لكنها في لحظة الخروج قررت العودة إلى الكويت وجحيم حربها، هذه اللحظة أثرت بي كثيراً وأنا أتخيلها على مشارف النهاية وهي تودع الكويت ثم تقرر العودة لها، وهو ما كتبته في روايتي "رجيم الكلام" في هذا المشهد:

"كان بينها وبين الحياة هذه الشعرة، اللا.. والنعم، نعم أن تسافر إلى الرياض وتحصل علي جواز كويتي بدلا من الجواز الذي صادرته السلطات العراقية، ومنها تذهب لاستكمال مهمتها في دور آخر ينتظر، ولا قالتها عندما وصلت إلى مدينة الخفجي وشاهدت أنوار الكويت من على البعد تومئ لها بالوداع الأخير، وداع لا يحتمله قلبها، وداع لم يقبله منطق عقلها ولم تذعن له روح مخلوقة للفداء، ربما كانت هذه نقطة الضعف الوحيدة في مسار الرحلة، ضعف الكريم أمام الوداع، وداع من؟

وداع وطن بأكمله، بكل ما فيه من ماض وحاضر ومستقبل، ذكريات وناس وتراب وبحر وشجر، أن تودع وطنا هو وداع الوداعات.

وعادت إلى نداء الحتمية والقدر، إلى النداء الخفي، إلى النداهة التي تنتظر عند نهاية الطريق، نهاية لا هروب منها ولا مفر، ولأن العمر اقترب من نهايته ازدادت سرعة المحرك، كان بينها وبين الموت ثلاثة شهور، وبينها وبين التحرير ثلاثة شهور".

أسرار محمد القبندي التي بدأت في المقاومة من ثاني أيام أغسطس وحتى اليوم الرابع من شهر نوفمبر، أسرار المرأة الشجاعة التي لم يبق عمل في المقاومة لم تقم به.

أي امرأة هذه، وأي شجاعة خرافية تلك؟

وأي روح قوية تسكنها، وأي شكيمة لا تقصفها الرعود؟ امرأة غيرت تاريخ المعتقل، غيرت نظام الحياة فيه.

أسرار... المرأة التي لن يجود بمثلها الزمن.

back to top