بعد «مديح الكراهية» و{لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، و{حارس الخديعة»، و{دفاتر القرباط»، وضع الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة روايته الجديدة {الموت عمل شاق} عن دار {نوفل}. مؤلمة هي هذه الرواية وواقعية إلى أقصى درجة فهي تتحدّث عما يدور على الأراضي السورية من قتل وذبح وموت. كثير من الموت اليومي الذي يجعل المرء ينسى هول لحظة الافتراق ليتحوّل مشهداً روتينياً يومياً لا يرف له جفن وسط أكوام الجثث المتراكمة والمساحات المحروقة والحقول الجوفاء المفرغة من غلاتها تحت وقع الدبابات المتنقلة وسماء تمطر براميل متفجرة.

Ad

هي قصة الأب عبد اللطيف المؤيد للثورة السورية لافظاً أنفاسه الأخيرة على فراش الموت. يطلب الأب من ابنه بلبل تنفيذ وصيته بعد الممات بدفنه في مقبرة قريته العنابية، التي تركها منذ ما يربو على الأربعين عاماً، «عظامه سترتاح بعد زمن طويل قرب رماد أخته ليلى، قرب رائحتها لكنه لم يكن متأكداً من احتفاظ الموتى برائحتهم نفسها بعد أربعين عاماً». يعد بلبل أباه بتنفيذ وصيته من دون خوف أو وجل. أقسم ألا يخذله مهما صعبت المشقة. مدرك هو لما للمهمة من صعوبات، «القتلى في كل مكان يدفنون في مقابر جماعية ومن دون تدقيق في هوياتهم. لم يعد الموت كرنفالاً يستحق إعلان النفوذ. قليل من الورد، معزون قلائل يتثاءبون في صالة شبه فارغة لمدة ساعتين، مقرئ يتلو سوراً قليلة من القرآن بصوت منخفض وينتهي كل شيء». ينهي بلبل الترتيبات لنقل والده إلى الوجهة المطلوبة. يحضر أخته من بيتها لترافقه في رحلة الوداع الأخيرة، ويتّصل بأخيه حسين ليقصد المستشفى معه لجلب الجثة. وهكذا يلمّ موت الأب شمل العائلة المشتتة. يحضّر بلبل سيارته كذلك. يزيل منها لوحات الميكروباص الذي يعمل عليه كسائق أجرة على خط جرمانا، ويزود السيارة بإشارة إسعاف مع رموزها. اشترى كذلك علبة ملطف للجو، وطبعاً قوالب كبيرة من الثلج سيضعها على الجثة لتصل سليمة إلى القرية. ترك لأخيه حسين مهمة الدخول إلى المشرحة لاستلام الجثة. تجربة مروعة يلخصها خليفة بعباراتٍ وجمل قاسية تدل على فظاعة المشهد: «في الممرات وجوه قاتمة وحزينة لرجال ونساء ينتظرون تسلّم جثث أحبّتهم، أشار عليه ممرّض ليبحث في الجانب الجنوبي من المشرحة. كاد يصاب بالتقيؤ وهو يفتح الصناديق المكتظة. أخيراً وجد جثة أبيه النضرة بعد فقده الأمل. مئات الجثث تضيع في هذه الفوضى وتنسى... كان المشهد في المشرحة مرعباً، ضباط يسيرون في الممرات، يتحدّثون بغضبٍ ويشتمون مسلّحي المعارضة بكلماتٍ قاسية، عساكر بعتادهم الحربي الكامل يجولون دون هدف، تفوح من جلودهم رائحة المعارك، أتوا برفاقهم جرحى أو قتلى، وكان التلكؤ فرصة لهربهم أو تمهلهم في العودة إلى حيث ينتظرهم الموت. كل شيء يبدو قريباً من الموت في هذه الفوضى».  

تفاصيل مؤلمة

تنقلك الرواية بتفاصيلها إلى قلب الحدث فتشعر أنك ترافق الأشقاء الثلاثة في رحلتهم إلى العنابية، تعيش معهم عذابات التنقّل عبر الحواجز في أرض محروقة باتت مجهولة لهم يتناتشها مسلحون غرباء السحنات واللهجات، جاؤوا من أصقاع بعيدة ليعيثوا في وطنهم حرباً ودماراً، فباتوا يشعرون بأنهم غرباء في وطنٍ ما عاد يذكّر بملامح الماضي الجميل. ترى حسين الأخ متخبطاً للمرور بين الحواجر. يتخذ قرار الخروج من دمشق عبر ساحة العباسيين ويحاول اللحاق بسيارة إسعاف، لكن الحاجز الأول لا يسمح له بالمرور. لم يفسح أحد له الطريق. «فكر حسين بأن مرور جنازة كان يثير تعاطف الجميع أيام السلم، السيارات تفسح الطريق، المارة يتوقفون وفي عيونهم تعاطف حقيقي، لكن في الحرب مرور جنازة حدث عادي لا يثير أي شيء سوى حسد الأحياء الذين تحوّلت حياتهم إلى انتظار مؤلم للموت».

لا يستسلم بلبل رغم طول الطريق ومشقة الوصول «سيدفن في الوقت المناسب. لن تتفسخ الجثة في هذا الشتاء البارد». تطول المسافات في بلد ممزق بين أطراف متحاربة، ويتحوّل كل فرد إلى كائن غريب أشبه بعدو ينبغي الانقضاض عليه. لا منطق في عالم من هذا النوع حتى «الجثة» تصبح موضع شبهات وقد تشهد عقاباً قاسياً. مشهد مضحك مبكٍ، فها هو حسين يقبل من بعيد يرافقه عنصر يلوّح ببارودته. «اقترب من بلبل وهمس له: «سيعتقلون الجثة». لم يفهم. ظنّ في الأمر التباساً، لكن حين فتح العنصر باب غرفة قرميدية دون نوافذ ورماهم داخلها فهموا أن الأمر جديّ. لقد اعتقلوا جثة، الأب كان مطلوباً لأكثر من فرع مخابرات منذ أكثر من سنتين».

يتمالك بلبل أعصابه ويتمكّن بعد معاناة طويلة من إبرام صفقة مع جندي النظام يستعيد بموجبها الجثة. ولكن حسين بدأ يفكّر بوجوب التخلّص منها. تحوّلت الجثة «عبئاً ثقيلاً» وسرعان ما اقترح رميها على حافة الطريق أو حرقها. لا يريد حسين تحمل فكرة تحملهم إلى جثة لصالح أبيهم. علاقته بأبيه كانت أساساً متوترة فقد غادر المنزل منذ فترة وانقطع اتصاله بالوالد. لا يستجيب بلبل لأفكار أخيه الشيطانية. يكمل الطريق غير آبه لتذمّره المستمر. وهكذا يمرون عبر الطرقات الموحشة من حاجز إلى حاجز إلى أن يجدوا نفسهم وبعد ساعات طويلة أمام غرباء يرتدون ملابس سوداء ويضعون أقنعةً على وجههم ويطلبون منهم هوياتهم بلغة عربية هجينة. الجثة أيضاً تعيش أهوالاً لا تحمد عقباها. تعيش ذلاً غير مسبوق، فها هي تمتلئ قروحاً وتشرّ قيحاً من كلّ صوب. وقفوا أمام محكمة شرعية لها أمير يسألهم عن مدى ممارستهم الشعائر الدينية وعن طائفتهم، وعن عدد ركعات صلاة الميت. عرفوا من لهجته أنه أفغاني أو شيشاني. لم ينقذهم من المأزق إلا سقوط القذائف على المبنى، فهرب الأمير تاركاً إياهم وسط القاعة الكبيرة.

كلاب وشراسة

تدهشك لدى خليفة هذ البراعة في الوصف الدقيق. تخال معه أنّك أحد أبطال الرواية، أنك بلبل أو حسين أو فاطمة. تنتابك مشاعر القلق والألم نفسها. تتوالى فصول الرعب والذل في الرواية، ومنها مشهد الكلاب التي تجذبها رائحة الجثة. كلاب تنقضّ على الميكروباص من كل حدب وصوب، وقد كشرت عن أنيابها. لقد أصبح «أبوهم جيفة تثير شهية الكلاب. إنها أكثر درجات انحطاط الجسد، أكثر من نصف ساعة والكلاب تزداد سعاراً، تأتي كلاب جديدة... قطيع من الكلاب...».

في آخر الرواية، يقع بلبل أسير «المحكمة الشرعية» ويخطئ في جوابه عن سؤال حول عدد ركعات الصلاة، أخطأ بإجابته أنه لا يؤدي من الشعائر الدينية سوى الصيام والزكاة فيما نجح حسين في الامتحان فأطلق سراحه أما هو فأبقوه عندهم لإكمال دورة شرعية في أمور دينه. لا يلبث أن يعود بلبل إلى أهله في ختام الرواية. وتصل الجثة إلى القرية إلا أنها لا تدفن في المكان المشتهى، لم تكتمل الوصية، لم يدفن الأب قرب أمه أو جدته أو أخته، بل كان قبراً منفرداً. «في النهاية لديه قبر، وليس شيئاً تافهاً أن يكون لك قبر»...