أسباب ثورات «الربيع العربي» ما زالت قائمة، وبالذات احتكار السُلطة والثروة، والبطالة، والإفقار، واتساع الفوارق الطبقية وقمع الحريات، وهو ما يعني أنه من المرجح تفجّر الثورات والانتفاضات والاحتجاجات مرة أخرى في أي لحظة وبمجرد شرارة صغيرة.

Ad

تفجّر الثورات والانتفاضات والاحتجاجات في منطقتنا العربية قبل سنوات قليلة لم يكن محض مصادفة، بل كان نتيجة تراكمات كمية استمرت عقوداً، وقد كشفت عن ثلاثة أمور على الأقل: الأمر الأول هو الطبيعة المتخلفة والمتوحشة للأنظمة الاستبدادية التي احتكرت السُلطة منذ منتصف القرن الماضي، بالرغم من أن بعضها أتي للحُكم بشعارات "ثورية" و"اشتراكية" و"تحررية" أثبتت الأيام زيفها وتناقضها كلياً مع الواقع المزري المعاش، فهي أنظمة قمعية تابعة اقتصاديا للرأسمالية الاحتكارية، وتنفذ سياسات اقتصادية نيوليبرالية متوحشة، بل الأدهى والأمرّ أنها عملت بشكل مُمنهج على تحطيم البنى الأساسية للدولة الوطنية وحولتها إلى "عزبة" خاصة بالرئيس وحاشيته ومن يدور في فلكهما، فالكلمة كلمة الرئيس وحده لا مُعقّب عليها، والثروة الوطنية له وحده يتصرف فيها كيفما يشاء وكأنها ملكه الخاص، بل يشتط غضباً عندما يحتج الشعب على أي قرار يتخذه ويكون رده عليهم "من أنتم؟!".

والأمر الثاني الذي كشفته الثورات والانتفاضات والاحتجاجات هو أن قوى الإسلام السياسي السنيّة والشيعية على حد سواء لا تختلف في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية وطبيعة القوى الاجتماعية التي تُمثلها عن الأنظمة الاستبدادية، بل إنها أكثر منها تشددا سياسياً وقمعاً للحريات العامة والشخصية، وبعضها كانت وما زالت متحالفة سياسياً مع الأنظمة الاستبدادية. علاوة على ذلك فقد اتضح للناس عدم أهلية تيارات الإسلام السياسي في بناء نظم سياسية مدنية ديمقراطية حديثة ومتطورة، فذلك يتناقض مع بنيتها الفكرية وطبيعة تكوينها وهدفها النهائي، بل اتضح أنها جزء من الثورات المضادة رغم طرحها شعارت زائفة عن الديمقراطية، والحريات، والكرامة، وهو الأمر الذي بينته تجاربهم في العراق وإيران ومصر وسورية وإلى حد ما في تونس رغم اختلافها قليلاً عن بقية الدول العربية نتيجة لمجموعة عوامل موضوعية وذاتية.

أما الأمر الثالث فهو انكشاف الوضع السيئ تنظيمياً وسياسياً للقوى المدنية الديمقراطية وقوى التغيير والتقدم الاجتماعي، وهو الأمر الذي أدى إلى فشلها مجتمعة في قيادة عملية التغيير وتقديم البديل المدني الديمقراطي الذي يلبي المطالب المستحقة لشعوب المنطقة، حيث إن الثورات لم تُستكمل لأن التغيير طال الشكل أو رئيس النظام السياسي، أما النظام الاجتماعي-الاقتصادي فبقي كما هو لم يتغير. صحيح أن القوى المدنية الديمقراطية قد عانت، وما زالت، القمع والإقصاء والتهميش، لكن ذلك لا يعفيها من المسؤولية الوطنية، فجميع القوى بما في ذلك بعض تيارات الإسلام السياسي عانت ما عانته وإن بدرجات مختلفة وفي ظروف مغايرة.

والسؤال الآن هو: هل فشلت ثورات ما سُمّي الربيع العربي، وعادت الأمور كما كانت قبلها وكأن شيئاً لم يكن؟ الجواب هو النفي، فمرحلة ما بعد "الربيع العربي" تختلف عما قبلها، والأمور لن تعود إلى الوراء رغم الانتكاسات ومأساوية الوضع العام، وشدة تعقيده، وصعوبته نتيجة عوامل كثيرة من ضمنها طبيعة التيارات الإسلامية التي اختطفت الثورات وحرفت مسيرتها، فضلاً عن بطش الأنظمة، وقمع الحريات، وتشابك المصالح المحلية والإقليمية والدولية كما حصل في بعض الدول مثل سورية وليبيا واليمن والعراق.

 وفي هذا السياق، فإن أسباب ثورات "الربيع العربي" ما زالت قائمة، وبالذات احتكار السُلطة والثروة، والبطالة، والإفقار، واتساع الفوارق الطبقية وقمع الحريات، وهو ما يعني أنه من المرجح تفجّر الثورات والانتفاضات والاحتجاجات مرة أخرى في أي لحظة وبمجرد شرارة صغيرة، مع عدم إغفال أن عملية التغيير الاجتماعي والديمقراطي عملية تراكمية، وهي ليست بالسهولة التي قد يتصورها البعض، بل إنها عملية شديدة التعقيد ولا تسير في خط مستقيم دائماً، فقد تواجه انتكاسات، فهي تعتمد على طبيعة موازين القوى في كل مرحلة والتي قد لا تكون، أحياناً، في مصلحتها.

 وكما ذكرنا مراراً، فإن القوى المدنيّة الديمقراطية هي وحدها المؤهلة لقيادة عملية التغيير الديمقراطي والتقدم الاجتماعي، فهي الصوت الوطني الجامع العابر للهويات الثانوية، وهي القوى القادرة على تحقيق المطالب المستحقة لشعوبنا في العيش، والحرية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية في دول مدنيّة ديمقراطية حديثة تقوم على المواطنة الدستورية والعدل والمساواة، وهذا يتطلب توحيد صفوفها ضمن جبهة سياسية عريضة كي تتمكن من العمل المشترك، وطرح البديل المدني الديمقراطي الذي يأخذ في الاعتبار طبيعة المرحلة الحالية ومتطلباتها، ثم يرتب الأولويات والمهام المرحلية والاستراتيجية ويسعى إلى تحقيقها بالوسائل الديمقراطية.