لو أن المتنبي بدأ حياته بالقصيدة التي أنهتها ومات عليها وبسببها ما عرفنا شاعراً اسمه المتنبي شغل الناس وأجمعت العرب على أنه من أشعرها إن لم يكن أشعرها على الإطلاق؛ فالقصيدة الركيكة والموغلة في فحشها كانت ترفض حتى مدارس الأدب أن تضمها بين نصوصها الأدبية. وليس سوى شعر المتنبي، خلاف هذه القصيدة "البذيئة"، هو الذي أنقذه من أن يكون صاحب أسوأ قصيدة هجاء في تاريخ الشعر العربي وجمهرته. يقال إن المتنبي كان يكره الاستماع إلى القصيدة، وربما تمنى لو أنه لم يقلها. لو كانت تلك القصيدة يتيمة المتنبي لانتهى المتنبي إلى لا شيء ولم تكن كيتيمة ابن زريق الذي خلدته قصيدة يتيمة.

Ad

تذكرت قصيدة المتنبي وأنا أنهي رواية "عطارد" للروائي العربي محمد ربيع، والتي كنت أبحث عنها في معرض الكتاب العربي في الكويت بناء على تزكية زميل، وعلمت أنها ممنوعة كبقية الروايات التي تم منعها، ثم فرحت لأن الرواية التحقت بقوائم "البوكر" ووصلت إلى القائمة القصيرة، رغم أنني لا أثق باختيارات "البوكر" ولجانها.

كنت أبحث عن الرواية حتى وجدتها لأقف مصدوماً أمام كم الابتذال والسوقية اللغوية التي اختارها الروائي لنصه الفانتازي، والذي حاول أن يسقطه على الوضع السياسي والاجتماعي في مصر فسقط منه. ويبدو أنه تعمد اللجوء إلى هذا السقوط وتهاوى النص بين سلسلة من الحكايات الفانتازية كان عمادها التحرر من رقيبه الداخلي واللجوء إلى رواية "بورنو" بشع لم تخدم النص الأصلي ولا تمت إليه بصلة.

لم يتمكن الروائي بالرغم من خياله الفانتازي الخصب من الإمساك بالخيط الرفيع بين الحسي والإباحي وبين الوصف الغرائزي والابتذال. وليعذرني مَن لم يقرأ الرواية لأنني لا أستطيع اقتباس أي كلمات إباحية وسوقية وردت في الرواية احتراماً لمقام المقال وذائقة القارئ، وبإمكان القارئ العودة إلى الرواية.

أما الهدف من المقال فهو هذا السرد الغريب للإباحية المنفرة والفجاجة التي رأى الكاتب أنها تستهوي القارئ معتمداً على نجاحات سابقة لروايات مماثلة، وبعضها وصل إلى "البوكر" أيضاً كرواية علوية صبح "اسمه الغرام" والتي ناقشناها يوماً ما في هذه الزاوية، وإن كانت أقل فحشاً وبذاءة من رواية عطارد. ولكن الحقيقة أن رواية محمد ربيع ستماثلها في الشهرة المؤقتة وتنتهي إلى لا شيء.

الأعمال التي تترك أثراً أدبياً راقياً وقيمة أدبية حقيقية ليست هي الأعمال التي يراد لها أن تعيش لحظة انتشار كعمل مخالف للسائد ومعتمدة على الفحش واللغة المقززة. وهذا ليس نقداً رقابياً أرى أن الكاتب هو المسؤول الوحيد عنه، وإنما البحث في مدى خدمة هذه اللغة والأوصاف والمشاهد الإباحية للخط الدرامي للرواية، والقارئ حين يجد أن الروائي أوغل في تعمد البذاءة في الكتابة لمجرد أن يرى في عمله كتابة متحررة من القيود ربما يقرأه مرة وينفر منه إذا كانت هذه مدرسته الأدبية التي يعتمدها. وما يجعل هذه الكتابة بعيدة عن صنع مدرسة أدبية هو التمادي في مشاهدها الإباحية وتكرارها.

يقدم محمد ربيع لنا القاهرة التي حولها إلى أوكار رذيلة وساحات دماء وقتال ومزابل وما قدمه صورة سوداوية كما يراها هو، والأخطر هو تعميمها لتكون الصورة البانورامية الوحيدة والمشهد الأوحد الذي ينظر من خلاله. فالراوي لا يرى سوى أوكار الدعارة والحشيش أو "الكربون" والمزابل ومساحات القنص والقتل والأشلاء والدماء والشخصيات المريضة التي تساوت بشكل غير مقنع في بذاءتها. وربما لم ينتبه الروائي إلى أنه لا يعالج حالة شخصية لبطل من أبطاله، بل يعالج مدينة بحجم القاهرة، المدينة التي هزمت كل القبح الذي تحدث عنه.