المحصلة النهائية للتوجه الاقتصادي النيوليبرالي، كما ذكرنا مراراً، هي سحق الفئات الوسطى والطبقة الفقيرة وتركيز الثروة في أيدي القِلة، وتعتبر الخصخصة بأشكالها المختلفة لا البيع فقط، أي تحويل الملكية، من ضمن آليات تنفيذ التوجه النيوليبرالي المنحاز اجتماعياً لمصلحة كبار أصحاب رؤوس الأموال. صحيح أن بعض أشكال الخصخصة مثل خصخصة الإدارة أو تشغيل النشاط أو الـ"بي أو تي" تعتبر من الناحية النظرية أخف ضرراً على الناس والمجتمع من بيع الأصول العامة، ولكن ذلك ينبغي ألا يؤخذ على إطلاقه فهذا يعتمد، عملياً، على الواقع السياسي-الاقتصادي الذي ستطبق فيه، إذ قد لا تقل ضرراً عن عملية التحويل الكامل للملكية التي تتحول معها السلطة تلقائياً. كيف؟

Ad

لنأخذ خصخصة الإدارة، على سبيل المثال، والتي تلجأ إليها الحكومة نتيجة العجز عن إدارة المؤسسة لأسباب بشرية وتمويلية على أن يتم ذلك لفترة وجيزة فقط تستلم بعدها الكوادر الوطنية المُدربة والمؤهلة إدارة المؤسسة، ولكن المطروح ضمن ما يسمى "وثيقة الإصلاح المالي" التي نشرتها صحيفة "القبس" على موقعها الإلكتروني (14 مارس 2016)، هو "إلزام الهيئات والمؤسسات العامة حديثة النشأة بالتعاقد مع القطاع الخاص لتنفيذ المهام التنفيذية الواقعة في نطاق اختصاصاتها". لاحظ كلمة "إلزام" التي تعني أن الحكومة ستقوم بإنشاء المؤسسات والهيئات العامة ثم تُسلّم مفاتيحها للقطاع الخاص، ليتولى إلى الأبد إدارة أنشطتها (تشغيلها) من دون توضيح الهدف من ذلك، خصوصا أن الشباب الكويتيين مؤهلون تماماً وقادرون فعلاً على إدارة مؤسسات الدولة وهيئاتها وتنفيذ أنشطتها.

والأمر ذاته ينطبق على نظام الـ"بي أو تي" وما يُطلق عليه "حق الانتفاع" في المناطق المُسماة "صناعية" وهي ليست كذلك بالمرة، فقد تم تحويل أنشطتها "الصناعية" بالمخالفة للقانون، فأصبحت عبارة عن معارض وأسواق تجارية وإنشائية ومطاعم ومقاه، ثم تم لاحقاً تقنينها، وهنا تبرز قضية تعارض المصالح، فضلاً عن الواجهة البحرية على طول الشريط الساحلي، والحيازات الزراعية، و"الجواخير"، حيث إن المُطبق لدينا لا علاقة له البتة بنظام الـ"بي أو تي" المعمول به عالميا، فلا بناء ولا تشغيل ولا تحويل، بل "انتفاع" مضمون ومستمر في بعض الأماكن منذ أكثر من نصف قرن.

ورغم كل ذلك تنتوي الحكومة الآن خصخصة النفط "عدا الإنتاج" والتعليم، والصحة، والخدمات الحكومية، والمطارات، والمواني، والكهرباء والماء، والاتصالات، والبريد، والصرف الصحي فماذا بقي لها؟ وهل القطاع الخاص الطفيلي والاحتكاري قادر فعلاً على ذلك من دون دعم الحكومة وتسهيلاتها؟ ثم هل لدينا قوانين تمنع الاحتكار وتعارض المصالح، ومؤسسات رقابية مستقلة وفاعلة، وشبكة حماية اجتماعية من فساد القطاع الخاص؟ والأهم ما الهدف من عملية "التصفية الشاملة"؟! هل هو ضمان مراكمة الشركات الخاصة الكبرى للأرباح الفلكية رغم أنها لا تضيف للناتج المحلي شيئا له قيمة، ولا تدفع ضرائب تصاعدية على الدخل والأرباح، ولا توفر فرصا وظيفية للمواطنين (نسبة المواطنين في القطاع الخاص الآن لا تتجاوز 4%)؟! هذا مع العلم أن الشركات الخاصة الكبرى تلجأ، في حالة الخسارة التي من المرجح حدوثها، إلى الحكومة، مثلما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008 عندما طلبت "غرفة التجارة"، في مذكرة نشرتها وسائل الإعلام في حينها، من الحكومة "ضرورة" تدخلها العاجل من أجل إنقاذ الشركات الخاصة الكبرى، وذلك عن طريق تملكها كما حصل في السبعينيات، وبعد أزمة "سوق المناخ"، وتولي إدارتها حتى لو أدى الأمر، كما ذكرت المذكرة، إلى تأميمها بالكامل. ناهيك عن تعارض المصالح الذي لم يعد خافياً على أي متابع موضوعي، وذلك عندما يكون متخذ قرار الخصخصة والمدافع عنه باستماتة قلّ نظيرها هو ذاته رئيس مجلس إدارة شركة تجارية، أو نفطية، أو عقارية، أو على الأقل يملك فيها سواء هو أو أقرباؤه من الدرجة الأولى حصة مؤثرة.