بين «إيزيس وأمينة ويمنة»... الطيبة والوفاء والأسطورة

نشر في 21-03-2016 | 00:00
آخر تحديث 21-03-2016 | 00:00
No Image Caption
• «أحن إلى خبز أمي» أشهر قصائد الحنين إلى الأم
تأبى الطبيعة إلا أن تختال ضاحكة في شهر مارس، إذ يشهد الاحتفال بـ «عيد الأم»، فيبتسم الأبناء كما الأمهات في كل ربوع العالم العربي، رغم أحداثه المأساوية. ويزيد من بهجة الاحتفال بعيد الأم هذا العام احتفاء الأوساط الأدبية في مصر بيوم ميلاد الشاعر محمود درويش، الذي كتب عن أعظم الأمهات، وهي الأم الفلسطينية. كذلك خصّص المجلس الأعلى للثقافة في مصر يوماً للاحتفال بالثقافة الفلسطينية، وكان محورها الأم المناضلة المقاومة المحبة، وهي المرادف للأرض.

تزخر المكتبة العربية قديمها وحديثها بكتابات تناولت الأم، ولا تخلو سير الأدباء والكتاب من شهادات عن أمهاتهم وأدوارهن العظيمة.  

في عالم نجيب محفوظ الروائي، أدّت الأم دوراً مهماً، عاكسةً في قصصه المكانة التي تمثلها في المجتمع والبيئة المصرية، وهو في كل مناسبة كان يتحدث عن أمه، وعن أهميتها في حياته، وفي تشكيل أرضية وعيه، وتحديد مساره. ويذكر الأديب الكبير أنه كان أكثر ارتباطاً بوالدته، لأنها كانت تتميز برجاحة العقل، وسرعة البديهة، ولأنه عاش معها فترة طويلة من حياته.

تنوعت صورة الأم في أدب نجيب محفوظ، فهي أمينة كما جاءت في ثلاثيته الشهيرة، وكانت مثالاً للأم الطيبة المضحية الخانعة والمتسامحة والراضية بنصيبها والمتفانية في دورها كأم وزوجة ووالدة، وهي أيضاً أم ياسين التي تمتعت بالاستقلالية، ورفض نموذج الأب الذي يتصف بالازدواجية. وفي روايته «بداية ونهاية»، رسم صورة بالغة الدقة لنموذج الأم المكلومة التي رحل عنها زوجها، لتتولى بمفردها مجابهة الحياة بصبر واعتداد شديد بالنفس.

وهي «إيزيس» في مسرحية الكاتب الكبير توفيق الحكيم «إيزيس وأزوريس»، التي جسد فيها عظمة الأم والزوجة المؤمنة بقضيتها، فتحولت إلى أسطورة بقوتها وصمودها ومعاناتها في سبيل إيجاد زوجها وحماية ابنها، فالأم هنا ذات قوة أسطورية، تواجه العقبات كافة، لتخرج منها بتجربة تحفر ملامحها في شخصيتها ووعيها، هذه الأم المصرية الصميمة تجسد في سلوكها وفاء إيزيس وعنادها وإصرارها ورعايتها ابنها حورس ووقوفها بجانبه حتى انتصر.

ويكاد يكون نموذج الأم القوية هو المسيطر على معظم كتّاب الوطن العربي، ومن بينهم المغربي إدريس شراييبي وروايته «الحضارة أمي»، وجاءت فيها الأم الفقيرة القوية التي تسعى إلى العلم، وتطلب من ولديها الشابين مساعدتها في تعلم القراءة والكتابة.

وفي روايات تحمل أزمات كبرى كالهوية والوطن والانتماء، تتحوّل الأم البسيطة ومفرداتها إلى رمز للوطن، كما في رواية «أم سعيد» لغسان كنفاني.

وتتعدد السير الذاتية في الأدب العربي التي يبرز فيها دور الأم، ففي «الأيام» لطه حسين نجد والدته الصبورة على الفقر وعلى مرضه، ومحاولتها الحثيثة في علاج عينيه مما ألم بهما، وإن لم تنجح في ذلك.

أم الأبنودي

وتشبه الأم في هذه الأيام الأم الشهيرة بـ «يمنة»، وهي أم الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، والتي أفرد لها فصولا كثيرة من دواوينه، لما أدته من دور كبير في حياته، إذ جاهدت وبذلت ما في وسعها لإنقاذ ابنها عبدالرحمن من الموت، وكيف استفادت هذه الأم الواعية البصيرة الخبيرة من ألوان الطب الشعبي. يقول الأبنودي: «كانت فاطنة قنديل أمي تفخر بأنها حققت بي أكبر معجزة في الدنيا، وهي أنها أبقتني على قيد الحياة، في قتال مرير وحرب ضروس ضد الطبيعة وقوانين الوجود، وبخبرتها الطيبة النادرة ووعيها بتجارب السابقين. هذه الأم التي تخوض النار حقيقة لا مجازاً من أجل إنقاذ طفل لديها عشرة أفضل منه... إنها الحياة. كانت تصعد بعد أن يتشرب الغروب استمراره المعتق، لتلمع نجوم السماء تحت عيون الرب، فتضيء جسدها الذي يتصاعد منه الدعاء، تكشف رأسها، تناجي وتدعو وتتوسل وتعاتب، كي يستجيب الرب».

ويأتي الشعر العربي مليئاً بمشاعر فياضة يبثها الشعراء لوجه أمهاتهم اللاتي يتشاركن في البهاء والطهارة على مر العصور، حيث يضم الشعراء في هذا الجانب قصائدهم من خلال عاطفة مشوبة بالحب والحنين.

الأم لدى الشابي قلب دافق بالعطاء لا يتوقف، وهو وفي لهذا القلب وإن نسيه الآخرون:

كل نسوك ولم يعودوا يذكرونك في الحياة

والدهر يدفن في ظلام الموت حتى الذكريات

إلا فؤادا ظل يخفق في الوجود إلى لقاك

ويود لو بذل الحياة إلى المنية وافتداك

ويزيد من هول المصيبة عندما تموت الأم، وهي بعيدة عن ولدها، فها هو الشاعر محمود سامي البارودي قد نعيت له والدته في الحرب فانفجرت شاعريته:

لعمري لقد غال الردى من أحبه

وكان بودي أن أموت ويسلما

وأي حياة بعد أم فقدتها

كما يفقد المرؤ الزلال على الظما

تولت فولى الصبر عني وعادني

غرام عليها شف جسمي وأسقما

ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي في وصف حنان الأم رغما عن قسوة الأبناء:

أغرى امرؤ يوماً غلاماً جاهلاً بنقوده حتى ينال به الضرر

قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الدراهم والجواهر والدرر

فمضى وأغرز خنجراً في صدرها والقلب أخرجه وعاد على الأثر

لكنه من فرط سرعته هوى فتدحرج القلب المقطع إذ عثر

ناداه قلب الأم وهو معفر، ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر؟!

في قصيدته الشهيرة، {قالولي بتحب مصر قلت مش عارف}، يصف الشاعر تميم البرغوثي، نجل الأديبة الكبيرة الراحلة رضوى عاشور، كيف يرى أمه التي شبهها كثيرون بـ {أم الجميع»:

قالولي بتحب مصر فقلت مش عارف

لكني عارف بأني ابن رضوى عاشور

أمي اللي حَمْلَها ما ينحسب بشهور

الحب في قلبها والحرب خيط مضفور

تصبر على الشمس تبرد والنجوم تدفي

ولو تسابق زمنها تسبقه ويحفي

تكتب في كار الأمومة م الكتب ألفين

طفلة تحمّي الغزالة وتطعم العصفور

وتذنِّب الدهر لو يغلط بنظرة عين

back to top