عندما يكون الإنسان ذا خلق حميد، صادقاً في تعاملاته، يؤدي واجباته الدينية والدنيوية، بمعنى أن يكون مواطناً صالحاً متمتعاً بالأخلاقيات الشخصية مع التزامه بقوانين وأعراف البلد، هل يستطيع أن يكون أنموذجاً مثالياً لرجل السياسة؟

Ad

هناك من يفرق بين السياسة والأخلاق، أي أن السياسة لا أخلاق لها، ولا عواطف، بل هناك من يعتبر السياسيين أناساً يتخذون من "البراغماتية" طريقاً للمسير في أداء أدوارهم، أو كما يقال كحساب الرياضيات "واحد زائد واحد يساوي اثنين"، بل إن هناك من ينقض هذه الحسبة، فيقلبها إلى "واحد زائد واحد يساوي صفراً"!

ومن اللافت أن هناك من يربط السياسة بسوء الأخلاق، وقطعاً هذا غير صحيح، ففي تاريخنا المعاصر تبرز شخصيات اتخذت من الأخلاق طريقاً لممارسة العمل السياسي، ولعل أشهرها غاندي، ونيلسون مانديلا، حيث أصبحا من الشخصيات التي تضيء للإنسانية مفهوم العمل الإنساني النبيل.

وفي تاريخنا العربي الإسلامي نماذج مضيئة، في مقدمتها نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي تجلت عبقريته السياسية في صلح الحديبية، حيث أثبت عليه الصلاة والسلام، أن الأخلاق والحصافة السياسية قد تجتمعان، وأيضاً الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذي كان نموذجاً مشرفاً في القيادة الأخلاقية، والسياسة الرصينة.

أما عن سوء الخلق السياسي، فسأذكر مثالاً واحداً، ليس من سياسيي العصر الحالي، فقد تذكرت موقفاً قرأته عن رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل، إذ حُكِي أنه كان دائم السخرية من الذين يريدون دائماً ربط السياسة بالأخلاق، حتى إنه حينما زار الهند وقام بزيارة قبر غاندي، قرأ عبارة مكتوبة عليه: «هنا يرقد رجل نبيل وسياسي عظيم»، فقال ساخراً: "عجباً كيف يرقد رجلان في قبر واحد"! وبالطبع كان يقصد أن الأخلاق والسياسة لا تجتمعان في قلب واحد!

لا جدال أن العمل السياسي دقيق ومتعب، وفيه إشغال للفكر، وعصف ذهني مستمر، ومتابعة حثيثة لكل جديد، وتجهيز للفعل، وردة الفعل، ودراسة وتحليل للمواقف، وسبر أغوار أحداث محلية وخارجية وعقل يعمل، وقلب يشعر، عيون تلتفت في كل أنحاء الساحة، محلية وإقليمية ودولية.

والسياسيون أنواع؛ فمنهم العامل بالمجال البرلماني، وهو سياسي ذو صبغة محلية صرفة، وبالإمكان اعتباره نوعاً من الوجاهة والظهور الاجتماعي، ومثل هذا النوع لا أثر له سياسياً، بل نصيبه التواجد الاجتماعي، والعلاقات العامة وكثير من هذا النوع يسهل شراء مواقفه بثمن بخس، وتقتات عليه الحكومات الفاسدة، عندما تتكون المعادلة الشهيرة التي تبدأ بتعسير المعاملات المهمة للمواطنين التي تؤثر على حياتهم، مثل العلاج بالخارج، والتوظيف، وبعض معاملات النقل الداخلي في الوزارات!

مثل هؤلاء السياسيين، لا ولاء لهم إلا لأنفسهم، ولا فائدة تذكر لهم، ومن يلتفت إليهم جيداً، يجد أنهم عالة على المجتمع!

وهناك سياسي انتهازي يعرف كيف يسرق لنفسه الفرص والأضواء، وهذا أسوأ من سابقه، فتجده دائما لا صوت له ولا نشاط، وفجأة تراه متقدماً الصفوف، وكأنه المنشار "طالع واكل نازل واكل"، حسب لهجة الأحباء في أرض الكنانة.

وهناك سياسي يبحث عن الأدوار التاريخية، والعلاقات الدولية، وله نوعان: نوع تستفيد منه بلاده لعلاقاته الدولية مع أصحاب القرار في عدة دول، حيث قد يصبح وسيطاً توافقياً لحل بعض القضايا السياسية، وأهم شيء امتلاكه سمعة حسنة، وخبرة سياسية، والنوع الآخر: نموذج يسيء لنفسه ولبلاده، وقد يكون سبباً في تعريض بلده لإحراجات سياسية إقليمية ودولية، بل قد يكون مزدوج الولاء، وهذا النوع هو أحد أسوء السياسيين.

ثم نصل إلى سياسي حماية المصالح الخاصة، وهذا تستطيع أن تصفه بتاجر السياسة، يستفيد من وجوده السياسي، ليفتح مداخل ومخارج لتجارته، وهو سياسي بالاسم فقط، ومثل هذا سهل جداً التعامل معه، فقط العب معه لعبة "هات وخذ"، وستجده يقوم بتمثيل دور إبليس على مستوى عال من الحرفية.

وهناك سياسي منسجم مع نفسه وأخلاقه، ويلتزم بوعوده، ويتحمل في سبيل ذلك الوفاء كثيراً من الهجمات المضادة، تصل أحيانا إلى الضرب تحت الحزام، وفي وقتنا الحاضر، رأينا سياسيين أدخلوا السجون، ومنهم من حورب في رزقه، واتهم في وطنيته، ومنهم من نُفِي ومنهم من "نفذ بجلده".

هذه هي نماذج السياسيين، وسجون الدول حالياً تمتلئ بكثير من تلك النماذج، الذين انتقلوا من العمل تحت الأضواء إلى غياهب السجون، وأتذكر الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان الذي كان في السجن، وها هو الآن يقود تركيا إلى نهضة اقتصادية ضخمة، وقبله كما ذكرت مانديلا، وغيرهما الكثير.

العمل السياسي يغدو راقياً إذا اختلط بنبل الأخلاق والإنسانية، ولعلي هنا أتذكر صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد، أميرنا الغالي حفظه الله ورعاه، الذي فاز بلقب "قائد للعمل الإنساني"، في تقدير من أعلى جهة سياسية في العالم لجهوده النبيلة لتحقيق الأخلاق الإنسانية في التعامل السياسي مع العلاقات الدولية.

الإنجاز السياسي التزام أخلاقي أثناء العمل العام، والتعذر بالدبلوماسية عذر قبيح، فالنماذج الأخلاقية هي من تقود العالم، أما مدعو السياسة وممارسوها بالطرق الملتوية فسيلفظهم التاريخ.