ما بين حماية الخصوصية وحرية التعبير

نشر في 31-01-2016 | 00:01
آخر تحديث 31-01-2016 | 00:01
 ياسر عبد العزيز   ثمة خيط دقيق رفيع يجب أن يظل واضحاً لدى متتبعي "الشخص العام"، وأن نجتهد جميعاً في اعتباره وعدم تجاوزه أو نسيان وجوده؛ إنه الخيط الفاصل بين الوقائع الخصوصية ذات الصلة بالمصلحة العامة، وتلك التي لا تفيد المصلحة العامة في شيء.

في شهر يوليو الماضي، فاجأت صحيفة "ذا صن" البريطانية الشهيرة جمهورها بغلاف ناري غاية في الإثارة؛ إذ حمل صورة واضحة كبيرة لنائب رئيس مجلس اللوردات آنذاك "جون سيويل"، البالغ من العمر 69 عاماً، وهو يشم الكوكايين، بورقة مالية فئة الخمسة جنيهات إسترلينية، على صدر بائعة هوى.

لم تكن تلك الصورة المثيرة الصادمة سوى جزء يسير من تقرير كامل وشريط فيديو بثته الصحيفة الشهيرة، وهو الشريط الذي نقل وقائع "سهرة ماجنة" أمضاها "سيويل" بصحبة فتاتي ليل، وتعاطى فيها المخدرات.

يمثل ما فعلته "ذا صن" في هذا الصدد انتهاكاً واضحاً لخصوصية "سيويل"، لأن أياً من الفتاتين لم تدع عليه أي ادعاء، كما أن ما فعله في "حيزه الشخصي الخاص" لم يمثل إزعاجاً أو انتهاكاً لحرية آخرين أو أمنهم.

ومع ذلك، فإن أحداً لم يوجه اتهاماً من أي نوع لـ"ذا صن"، أو يمنعها من متابعة القصة واستخدام المواد الخاصة بها في تغطيات تالية.

الأهم من ذلك أن "سيويل"، الذي بات منذ نشر هذا التقرير يعرف باسم "لورد كوكا"، سارع بتقديم استقالته من مجلس اللوردات، واعتذر للبريطانيين، وبرر استقالته بأنه لا يريد للأنباء التي نشرت بشأنه، والتي توضح بعض سلوكياته الشخصية، "أن تنال من ثقة المواطنين بالمجلس".

 ثمة واقعة أخرى موحية في هذا الصدد، فقد تصدر غلاف مجلة "كلوسر" Closer الفرنسية، في عددها الصادر في 13 سبتمبر 2012، صورة لدوقة كامبريدج، الأميرة كايت، وهى عارية إلا من القطعة السفلى من رداء السباحة، بعدما التقط مصورو "الباباراتزي" صورة للأميرة، وهي تقضي عطلة في جنوب فرنسا.

لكن العائلة المالكة البريطانية تضررت من نشر صورة الأميرة بصدرها العاري، فرفعت دعوى أمام القضاء الفرنسي المستعجل، لتبت المحكمة في القضية بسرعة شديدة، وتصدر حكمها النهائي فيها في فترة لم تتجاوز أسبوعاً.

لقد قضت المحكمة المدنية، في "بلد الحريات" فرنسا، بإلزام المجلة عدم نشر صورة دوقة كامبريدج عارية مجدداً، وبتسليم الصورة الأصلية للقصر الملكي خلال 24 ساعة، وعدم بيعها لأي صحيفة أخرى داخل البلاد أو خارجها، وغرامة مقدارها 13 ألف دولار أميركي عن كل يوم تأخير في التنفيذ.

تذكرت هاتين الواقعتين، وغيرهما الكثير، حينما دار النقاش في ندوة مثمرة، أقامها "المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية"، بالقاهرة، أخيراً، حول الضوابط التي تنظم العلاقة بين حرية الرأي والتعبير من جانب، وحماية الخصوصية من جانب آخر.

يعطينا المثلان السابقان الصيغة الفضلى لفض الاشتباك بين الحق في الخصوصية وحق الجمهور في المعرفة؛ إذ يتضح أن "اللورد كوكا"، الذي شغل منصب وزير في حكومة "توني بلير"، ومنحته الملكة لقب "نبيل" مدى الحياة، فرّط في خصوصيته، حين انتهج سلوكاً يؤثر في سمعته ومكانته، ويزعزع الثقة بمؤسسة عامة يمولها دافعو الضرائب (مجلس اللوردات).

أما الأميرة "كايت"، فإن خصوصيتها يجب أن تصان، لأنها لم تفعل سوى التمتع بعطلتها، ولم تأت سلوكاً مغايراً لما يصدر عن القطاعات الغالبة من المواطنات البريطانيات في أثناء قضاء العطلات الشاطئية.

والشاهد أن الخصوصية قيمة حيوية يجب ألا تُنتهك بزعم حرية الرأي والتعبير أو حق الجمهور في المعرفة، لكن قيام "الشخص العام" بسلوك شخصي يضر المصلحة العامة بشكل واضح، ويؤثر في استقرار المؤسسات العامة أو يزعزع الثقة بها، يمنح الصحافة الفرصة للتجرؤ على تلك الخصوصية. وقبل مئات السنين، سعى ابن حزم الأندلسي، في كتابه المشوق "طوق الحمامة"، إلى إلقاء الضوء على هذا الموضوع، حين كتب ما نصه: "من تصدّر لخدمة العامة، فلا بد أن يتصدّق ببعض من عرضه على الناس". لطالما تحدثت الدساتير، والقوانين، والعهود الدولية عن "الخصوصية"، واعتبرت أنها مصونة، ولا يجوز انتهاكها بأي حال من الأحوال. لكن ابن حزم يريد أن يقول إن "الشخص العام"، أو الذي اختار بمحض إرادته الحرة أن "يتصدى لخدمة العموم"، يختلف عن الشخص العادي، الذي يكتفي في دنياه بسعيه الذاتي إلى تأمين حياته وحياة من يعول، دون أن ينخرط في الخدمة العامة، أو يترشح للمناصب، أو يقبل بالولاية، أو يستجيب للانتخاب والتعيين.

سيمكننا أيضاً أن نتفهم أن تصدر شخص ما لخدمة العامة يفرض عليه، ضمن أمور أخرى كثيرة، أن يجعل من سيرته الذاتية كتاباً مفتوحاً، وأن يجتهد في إثبات حسن سلوكه، ونقاء سيرته، واتزان مساراته، لأن هذا مما يحسن معرفة العامة به، ومما يعضد ثقتهم به، ومما يسهل تخليهم له عن النهوض ببعض شؤونهم، وتمثيلهم، والدفاع عن مصالحهم.

لكن ثمة خيط دقيق رفيع يجب أن يظل واضحاً، وأن نجتهد جميعاً في اعتباره وعدم تجاوزه أو نسيان وجوده؛ إنه الخيط الفاصل بين الوقائع الخصوصية ذات الصلة بالمصلحة العامة، وتلك التي لا تفيد المصلحة العامة في شيء.

فهناك عدد من الشروط الصارمة التي تتيح للجمهور معرفة وقائع تخص الحياة الخاصة لشخص عام أو شخص عادي، وهي ذاتها الشروط التي تتيح لوسائل الإعلام تغطية مثل تلك الوقائع.

أول هذه الشروط أن تكون الصلة واضحة ومباشرة بين الواقعة الخاصة وبين المصلحة العامة، بمعنى أن يكون كشفها ضرورياً لتحقيق تلك المصلحة أو منع خطأ أو كشف فساد.

ومن تلك الشروط أيضاً أن يكون القدر الذي يتم كشفه من الحياة الخاصة للشخص الذي يتم اختراق خصوصيته هو القدر الكافي فقط لإثبات العلاقة بالمصلحة العامة، وأن يكون هذا القدر محتشماً ومقتصداً بما يكفي لتلبية الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع.

ومن أهم تلك الشروط كذلك أن يتم إيراد رأي الشخص الذي تم اختراق خصوصيته، أو من يمثله، في ذات الحصة الإعلامية التي تم خرق خصوصيته فيها.

إن الاستناد إلى رخصة "خرق الخصوصية"، لتجريح الناس وهتك سترهم مسألة غاية في الخطورة، خصوصاً إذا استُخدمت ممن لا يراعون تلك الشروط أو لا يعرفونها.

* كاتب مصري

back to top