الديمقراطية الحديثة والدساتير المكتوبة والفصل بين السلطات وغير ذلك هي من صميم الإدارة المدنية الحديثة التي أفرزتها أفكار وتجارب أوروبا، ثم انتقلت إلى العالمين العربي والإسلامي لاحقا، وقد شهدت كل هذه المجتمعات صراعات وتطورات، بما في ذلك الكويت، لترسيخ مبادئها وقيمها، ولم تكن مما ظهر في الحياة السياسية دون عناء.
وهبت القبيلة عناصر جوهرية للتجربة الكويتية! فنقلت، حسب قول د. يعقوب الكندري "المفاهيم السياسية الموجودة في الكيان القبلي إلى الدولة الحديثة"، فالقبيلة بهذا المعنى هي منبع تجارب المجالس وبدايات الديمقراطية الكويتية منذ مجالس 1921 و1938، حتى الاستقلال والدستور ومجلس الأمة.وكما أشرنا، يقول في بحثه عن القبيلة في الكويت ما يلي: "جاءت الشورى واتخاذ القرار وتوزيع المهمات والسلطات وتكوين المجالس، وغيرها من مقومات الحياة السياسية وفقا للنظم العشائرية السائدة، ومع وجود العشائر والقبائل التي بدأت تستقر في الكويت".وقد تطورت هذه القيم بعد أن عززها بصورة أكبر النظام السياسي إلى أن تم إقرارها في دستور 1962، ثم يستطرد شارحا: "فساهمت القبيلة بدور بارز في هذه العملية الديمقراطية من حيث المشاركة الفعلية في الانتخابات البرلمانية، وكان لها الدور البارز والفاعل في هذه المشاركة، وقد تجسد هذا الدور، من حيث عدد المشاركين، في الانتخابات، ترشيحا كان أم انتخابا. ومتابع الشأن المحلي يرى ويلاحظ المشاركة الكبيرة في الانتخابات البرلمانية ترشيحا وانتخابا في المناطق التي تتسم بطابع قبلي في الكويت أكثر منها في المناطق التي ينحدر سكانها من الجذور الحضرية، إذ يسجل سكان هذه المناطق المنحدرون من المناطق القبلية مشاركة بمعدلات أعلى، مقارنة بسكان المناطق الحضرية في جميع الانتخابات البرلمانية، ما عدا الانتخابات الأخيرة التي تخللتها مقاطعة شعبية".وقد درس د. خلدون النقيب حجم المشاركة القبلية في الانتخابات عامي 1975 و1981 مثلا "ووجد عند صدور النتائج أن النواب القبليين كانوا يمثلون 44% في انتخابات 1975- أي 22 عضوا من إجمالي 50 عضوا- وارتفعت النسبة إلى 54%- أي 27 عضوا- في انتخابات 1981، كما أخذت أعداد المرشحين تتزايد بحيث تجاوزت نسبتهم ما يقارب 60% من إجمالي النواب".ويمكن للقارئ أن يتساءل: هل مجرد حماس أبناء القبائل للانتخابات البرلمانية دليل على إيمانهم بالديمقراطية ورغبتهم في تحديث المؤسسات السياسية وغير ذلك؟والجواب بالنفي طبعا، فالباحث يشير إلى دافع آخر "هو موضوع السعي إلى عملية الاندماج والرغبة في تحقيق هذا الاندماج عند أهل البادية". ولا شك أن تزايد الاحتكاك بين فئات المجتمع والرغبة في تحسين الأحوال المعيشية لأبناء القبائل وارتفاع حواجز الروتين والبيروقراطية، وكذلك سوء الإدارة والفساد المالي في أحوال أخرى، دفعت بأعداد متزايدة من أبناء القبائل إلى التيارات السياسية والمنافسة الوظيفية وتحسين المؤهلات ودخول المجالس البرلمانية والبلدية وجمعيات النفع العام وغير ذلك. كما سعى البعض لكسب السلطة السياسية للتنافس ما بين القبائل نفسها، والتوسط لخدمة ناخبيه، والتقرب من مراكز اتخاذ القرار.ورغم أن الدولة في التجربة الكويتية صاحبة أهم وأبرز قرار في مجال تشكيل المجتمع، فإن الباحث لم يتناول دورها بالتفصيل، بل لعل العلاقة بين الدولة والقبيلة بحاجة لورقة أخرى، ومقارنات مع تجارب خليجية وعربية لا مجال لها في هذا البحث الاستبياني.ورغم ذلك فإن د. الكندري يلاحظ أن "عملية اندماج البدو مع المجتمع الحديث ومؤسساته جاءت بالنسبة إليهم ناجحة إلى حد بعيد، وربما مرد هذا إلى المساهمة الحكومية في عملية الدمج من خلال تشريعها القوانين التي تساوي بين الجميع في حقوق المواطنة، ووضع مجموعة من الآليات المناسبة لتسهيل عملية الاندماج كنظام السكن الذي أقرته الحكومة، وحاولت أن تجمع به بين الشرائح الاجتماعية كافة".ويضيف د. الكندري، أن موضوع الاندماج في مجال العمل ومؤسساته المختلفة، إلى جانب نظام السكن المشار إليه "يعتبر من أبرز الأشكال التي ساعدت على عملية الاندماج، فجاءت نظرة أهل البادية للمؤسسات الحكومية إيجابية بحكم اعتبار هذه المؤسسات نقلة نوعية في مجال العمل الذي كان يعتمد على الكفاف من رعي للإبل والماعز، إلى العمل اليدوي والأجير الذي يحقق الأرباح المادية السريعة"، ويقتبس الباحث من دراسة لعبدالرسول الموسى بعنوان "التحضر ودور البدو في البناء الاجتماعي في الكويت" قوله: وقد بدأ البدو "بالعمل في مجالات تتفق مع قدرتهم التعليمية ومهاراتهم، وقد عملوا في البداية مع شركات النفط في المهن شبه الفنية في أعمال التنقيب والصيانة، وعملوا سائقين وحراسا".ثم انطلقوا، يقول د. الكندري، "بشكل مباشر في القطاع المؤسسي العسكري والأمني، ولعل انخراط أهل البادية في هذا القطاع يرتبط بالطبيعة الصحراوية التي كانوا يعيشون فيها، والتي تعتمد على الغزو والمعارك، وهو ارتباط مباشر ومتوافق مع هذه الطبيعة".ويشير الباحث إلى ما يورده سعود القحطاني في كتابه المعنون "النخب السعودية وحديث عن المناطقية، 2004، فيقول: "كان لأبناء القبائل تمركز كبير في القطاع العسكري، فاحتلوا فيه مناصب عليا، فالقيم الاجتماعية لأبناء القبائل تركزت على الشجاعة والقوة وخوض المعارك والغزوات، وهو ما عزز رغبة هذا الكيان التقليدي في الالتحاق بالسلك المهم هذا في قطاع الدولة".ما مستقبل القبيلة الاجتماعي والسياسي في الوضع الكويتي؟ يقول د. الكندري مختتما دراسته، بأن المجتمع الكويتي بحاجة إلى بعض القيم الاجتماعية التي تشد القبيلة: "إن القبيلة تعتبر كيانا اجتماعيا موجودا في المجتمع المعاصر. وعلى الرغم من التغيرات التي طرأت على المجتمع في بنائه الاجتماعي العام، فلا يزال للقبيلة تأثيراتها المتعددة في الحياة الاجتماعية بشكل عام، وفي الحياة السياسية بشكل خاص، وهناك أهمية قصوى، بالنسبة إلى المجتمع، لتعزيز مجموعة من القيم القبلية، كتلك المتعلقة بالتناصر والتماسك والتعاضد الاجتماعي والطاعة والولاء، وغيرها من المفاهيم التي يمكن استغلالها وتسخيرها في بناء المجتمع المعاصر وخدمته".نظرة تقييملا جدال في أن دراسة د. الكندري إضافة قيمة علمية تملأ فراغا حقيقيا في "المكتبة القبلية" الكويتية التي لا تزال بحاجة إلى المزيد من المساهمات والدراسات، وما نتأمله أن تكون هذه الورقة بداية طيبة لإعداد المزيد.إن القبيلة مؤسسة كبرى في الحياة والثقافة العربية من المحيط إلى الخليج ومن أقدم الأزمنة إلى اليوم. ويقول الباحثون إن القبيلة كانت قبل نشوء الدولة الحديثة في جزيرة العرب "تشكل وحدة سياسية تملك قوة عسكرية خاصة، تفرض حمايتها على المدن والقرى والقبائل الأخرى". (المجتمع العربي، بركات، ص198).ويقول آخرون إن البداوة في المشرق العربي تجسدت في ثلاثة تجليات خلال القرن العشرين: "فهناك قبائل تحولت إلى دول، وأخرى اندمجت في دولة قائمة، وثالثة هاجمت المدينة وانتصرت عليها وحكمتها". (المشرق العربي من البداوة إلى الدولة الحديثة، د.مسعود ضاهر، بيروت 1986، ص 272).ولهذا فليس من جديد القول الإشارة إلى تأثير القبيلة في المجتمع الكويتي والمجتمعات الخليجية، وتغيير قيمها وبنيتها السكانية، وربما كان من المفيد للبحث الذي بين أيدينا لو أن د. الكندري أجرى مقارنات أوسع في تحليله مع تجارب خليجية عربية أخرى، كدولة الإمارات وقطر والأردن، وإن لم تخل الدراسة الحالية من بعض الإشارات.وكما أشرنا أكثر من مرة فإن تبادل القيم بين البادية والحاضرة والريف والمدينة من الظواهر المألوفة في الحياة العربية. وقد تناولنا في مقال عام 2007 ما عرضه ملف صحافي في جريدة "الوطن" في 18/ 2/ 2006، قبل عشر سنوات، بعنوان "المرأة والقبيلة: من يرسم مستقبل الآخر؟ وكان يبدد واضحاً من ذلك الملف وما فيه من مقابلات أن تحولاً كبيراً أخذ في الظهور بين فتيات ونساء القبائل، وبخاصة في مجال التعليم والطموح المهني وحرية اختيار الزوج وغير ذلك. وقد تحدثت للصحيفة إحدى السيدات فقالت: "أنا بحكم كوني بدوية فأنا أخص المرأة البدوية في كلامي، وأقول إنها أصبحت أفضل بكثير عن السابق، في الواقع كل جيل أفضل من الجيل الذي يسبقه، المرأة البدوية أصبحت أكثر حرصا من السابق على التعليم والتفوق، وبعضهن وهذه نسبة كبيرة أصبحن يكملن ما بعد الجامعة كالدراسات العليا والدكتوراه، وهذا بحد ذاته أكبر تطور شهدته المرأة الكويتية بصورة عامة والبدوية بصورة خاصة، كذلك فإن الآباء أصبحوا أكثر رغبة في تعليم بناتهن عن السابق، أصبح للمرأة البدوية اليوم الحق في اختيار شريك حياتها، ففي السابق لم يكن لها رأي في مسألة الزواج، الآن من حقها أن ترفض العريس المتقدم حتى لو كان ابن عمها أو أحد أقاربها وهذا لم يكن موجودا".ولعل أبرز ما أثارته ورقة د. الكندري ما جاء فيها عن الأصول التي تطورت عنها الديمقراطية، وقيم الدستور في الكويت، والمنابع القبلية لها.ولا جدال في مكانة الشورى في مشيخات القبائل ومجالسها منذ أقدم العصور، غير أن الديمقراطية الحديثة والدساتير المكتوبة والفصل بين السلطات وغير ذلك، هي من صميم الإدارة المدنية الحديثة التي أفرزتها أفكار وتجارب أوروبا ثم انتقلت إلى العالمين العربي والإسلامي لاحقا. وقد شهدت كل هذه المجتمعات صراعات وتطورات، بما في ذلك الكويت، لترسيخ مبادئها وقيمها، ولم تكن مما ظهر في الحياة السياسية دون عناء.بقي أن نشكر الأستاذ الفاضل والصديق د.يعقوب يوسف الكندري، صاحب المساهمات الأكاديمية والأوراق الجامعية المعروفة على ما بذل من جهد في هذه الورقة، وإن لم تتضح لي بصراحة مع نهايتها، هل القبيلة إضافة حقيقية للديمقراطية الكويتية فنعززها ونحافظ عليها ونفسح لنفوذها المجال، أم أنها مؤسسة خاصة ذات تأثير وقيم إيجابية وسلبية نحتاط من بعضها ونستكثر من البعض الآخر؟!وهذا ما نتركه للإخوة الباحثين والمحاورين.
مقالات
د. يعقوب الكندري: القبيلة أصل الديمقراطية في الكويت (3-3)
18-03-2016