أدب الكاريكاتير (1)

نشر في 14-02-2016
آخر تحديث 14-02-2016 | 00:00
 فوزي كريم في موروثنا العربي سبق فنُّ الأدب والشعر اللغويان، الخياليان، فنَّ الكاريكاتير في الرسم، وفي التراث الغربي والعالمي لم يقصّر الأدب في هذا، ولعل رواية الاسباني سيرفانتس "دون كيشوت" أرفع الأمثلة على خيال الكاتب الكاريكاتيري، وهي مترجمة إلى العربية، ومعروفة لدى كثيرين. ولا يملك الرسام أن يضع "بورتريتاً" لدون كيشوت على فرسه، ولصاحبه على حماره، بصورة تبتعد عن الأسلوب الكاركاتيري. حتى الموسيقى الكلاسيكية لم تبرأْ من هذا الميل إلى إثارة الضحك أو الابتسام، عبر المفارقات التي تُوظَّف لها الآلات الموسيقية. وكلمة joke شاعت مصطلحاً من مصطلحات التأليف الموسيقي.

وفي شعرنا الحديث يشيع الكاريكاتير في الصورة اللغوية عن قصد أحياناً، والمسعى في هذا القصد تراجيدي، ولا أذكر أين قرأت هذه الأبيات التي أقدمها نموذجاً لذلك:

"تابوتٌ يلبس وجهَ الطفل/ كتابْ/ يُكتب في أحشاء غرابْ/ وحشٌ يتقدم يحمل زهرة/ صخرة/ تتنفّس في رئتي مجنونْ:/ هو ذا القرن العشرون".

 وأحياناً يكون المسعى ضاحكاً، كقول الراحل شريف الربيعي: "رأس الشاعر/ طبقٌ طائرْ..."

 هناك نماذج لا تُحصى من هذا بالتأكيد في شعرنا الحديث، ولكن هناك محاولات في التصوير المجازي تصبح كاريكاتيرية عن غير تعمُّد، بسبب المبالغة في الجدية، كقول الشاعر أدونيس:

"يخفُّ إليك الواقعُ ويُجلسك على أطراف أظافره: لحجاره حبالٌ صوتية،

وأنّا توجهتَ فيه، يبدو وجهُه سراباً يُقبّلُ الأرض/ أيامُه لدائنُ ينمو فيها عشبُ التاريخ..."

أو: "يصعد الموتُ في درجٍ/ كتفاه بجعٌ وامرأة/ ينزلُ الموتُ في درجٍ، قدماه/ شررٌ، وبقايا/ مدنٍ مُطفأة...)

أو قول الراحل يوسف الخيال:

"وجوهنا مفازةٌ/ مشت عليها قدمُ البوار...". فأنت لا تملك إلا أن تستعين بالخيال الكاريكاتيري، لاستحضار هذه المبالغة في تصورك للوجه الذي يبدو على هيئة صحراء، والقحل الذي يمشي عليها، على هيئة قدم.

 في شعرنا العربي القديم يوفر لنا فن الهجاء ضروباً من الكاريكاتير الثقيلة الدم أحياناً كثيرة، بسبب احتقانها بمشاعر الكراهية، فصورة المتنبي للعبد المسكين، في هجاء كافور، مثال لذلك:

 ما يقبِضُ الموتُ نفساً من نفوسِهِمُ إلا وفي يده من نتنِها عودُ

 من كلِّ رَخوٍ وِكاءِ البطنِ مُنفتِقٍ لا في الرجالِ ولا النسوان معدودُ

 (أي أنه لا سيطرة له على بطنه)

 ولكن هناك في الشعر العربي سخريةً مُبرّأةً من الضغينة، وثمة فارق بين الهجاء والسخرية في الشعر. ولعل أروع وأجمل شاعرين في فن الشعر الكاريكاتيري الساخر هما ابن الرومي وابن الحجاج.

 ما من ضغينة في سخريات ابن الرومي، رغم أن جامعي شعره ومصنفيه ينسبونه إلى فن الهجاء، ولنقرأ هذه العينات من شعره، وننسبها إلى الفن الذي يليق بها، الهجاء أم السخرية. يقول عن رجلٍ محدودب الظهر:

قصُرت أخادعُه وطال قَذالُه فكأنه متربِّصٌ أن يُصفعا

وكأنمـا صُفعتْ قفاهُ مرةً وأحسَّ ثانيةً بها فتجمّعا

(قصرت عروق رقبته ـــ القذال مؤخر الرأس)

وقال في ابن الدجاجي:

واجتثّه الخالقُ من خلقه فإنه في خلقـه زائـدة

أعْدى دجاجاً عنده بخلُهُ ولؤمُ تلك الشيمةِ الجاحدة

فأصبحتْ عشرُ دجاجاته تبيضُ فيما بينها واحدة

وقال في مُلتحٍ:

ولحيةٍ يحملها مائقٌ مثل الشِّراعيْن إذا أُشرعـا

تقودُه الريحُ بها صاغراً قَوْداً عنيـفاً يُتعبُ الأخدعـا

لو غاص في البحرِ بها غوصةً صاد بهـا حيتانَـه أجمعا

وقال في عيسى:

يُقتّرُ عيسى على نفسِه وليس بباقٍ ولا خالـدِ

فلو يستطيعُ لتقتيرِه تنفسَ من مِنخرٍ واحدِ

وقال يخاطبُ القاسم:

مستفعلن فاعلٌ فعولُ مستفعلن فاعلٌ فعولُ

بيتٌ كمعناكَ ليس فيه معنى سوى أنه فضولُ.

back to top