أفقدنا الأندلس... أم ثقافتها؟
تفيض كتب الرحلات والتاريخ العربية بذكر "بلاد الأندلس" وذكريات قرون الحكم العربي الإسلامي فيها حتى تكاد توقن أن ذلك الحكم والعهد لم ينته إلا قبل سنين قليلة لا قرون! "وحيثما حللت في أوطان العرب وجدت الأندلس على كل لسان: من رآه يحلم بما رأى، ومن لم يره يحلم بما يمني النفس برؤيته. والأندلس عندهم جميعا بلد عربي قائم بأهله ومدائنه وعلمائه وشعرائه ومجده الذي كان... فكيف يكون مفقودا وله كل هذا الوجود؟". (رحلة الأندلس، حسين مؤنس، القاهرة، 1963، ص7).أهل الأندلس في ثقافتنا وكتبنا أهل دنيا وتسامح واستمتاع، وجماعات تساهل لغوي، وتعددية دينية وعرقية، ودول تزول وأخرى تقوم، وأسر تحكم وأخرى تزول، في حين شعب الأندلس أو شعوبه ماضون في حياتهم وتسامحهم وتعايشهم، مسلمين ومسيحيين ويهودا، وغارقون في بهاء تلك الوديان وجمال هاتيك الديار.
ولقد "أكثر أهل الأندلس في البناء حتى كان المسافر على الوادي الكبير لا يكاد ينقطع نظره عن العمران والبساتين التي كان بعضها يتصل ببعض على طول النهر من جهتيه، وكان نور السرج ليلا يكاد يكون متصلا في طوله، وقد قال ابن خفاجة الذي توفي سنة 533هـ سامحه الله في وصف هذه البلاد:يا أهل أندلس لله دركمُماء وظل وأنهار وأشجارما جنّةُ الخلد إلا في دياركمُولو تخيرتُ هذا كنت أختارلا تحسبوا بعد ذا أن تدخلوا سقرافليس تدخل بعد الجنة النار". ويضيف "البتنوني" في كتابه "رحلة الأندلس"، وهو كتاب غير كتاب حسين مؤنس الذي ذكرناه، أن الأندلسيين "كانوا يتسامحون في تشييد هذه القصور بما كانوا يقيمونه فيها من التماثيل في أوضاع مختلفة"، وفي كتاب "نفح الطيب" وصف كثير منها شعرا ونثرا، وقد وصل بهم التسامح في التماثيل أن كانوا يقيمونها في ميادينهم العامة. وقد قال بعضهم في تمثال أقيم في ساحة من ساحات شاطبة:كأنه واعظ طال الوقوف بهمما يحدث عن عاد وعن إرمافانظر إلى حجر صلد يكلمناأشجى وأوعظ من قسّ لمن فهما(رحلة الأندلس، محمد لبيب البتنوني، القاهرة، 1955؟ ص136-137).أصدرت وزارة الأوقاف العمانية بمسقط عام 2003 دورية شهرية قيمة باسم "التسامح"، والتي تم تغيير اسمها إلى مجلة "التفاهم"، ومن المقالات الشيقة التي نشرها "صلاح جرار" الأستاذ بقسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية في العدد الأول منها بعنوان: "من صور التسامح الإسلامي في الأندلس"، تحدث فيه عن تنوع وتداخل ثقافات الأندلس وقال: "امتاز المجتمع الأندلسي إبان الحكم العربي 92-897هـ بالتنوع الثقافي، حيث تألف من عناصر مختلفة الأعراق والأديان من عرب وبربر وإسبان وصقالبة ومسيحيين ومسلمين ويهود وغيرهم، وقد تفاعلت هذه العناصر تفاعلا عميقا جعل من المجتمع الأندلسي مجتمعا متميزا في بنائه الحضاري والفكري، وقد تجلى التسامح في مظاهر شتى من بينها التزاوج والتبادل مع قشتالة ودول أوروبا، والتبادل العلمي من خلال ترجمة الكتب اللاتينية واليونانية إلى العربية، وتبادل الكتب والمخطوطات، كما يظهر ذلك من خلال تساهل بعض الفقهاء وتغاضيهم عن كثير من عادات الأندلسيين وتجاوزاتهم في طربهم ولهوهم، بل إن بعض هؤلاء كانت لهم مشاركات في مجالس اللهو والطرب.ولم يمنح المسلمون المسيحيين واليهود حرية العبادة وإقامة الكنائس والأديرة فحسب، بل سمحوا لهم بالدخول في جهاز الدولة، كما شاركوا المسيحيين حتى في أعيادهم، حيث عرف الأندلسيون عددا كبيرا من أعياد المسيحيين وفي مقدمتها عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام أو "النيروز" أو "النوروز"، والمعروف عندهم باسم "ينير" أي يناير فيما يبدو، كما احتفلوا بسابع أيام ولادته، وعيد "العنصرة" ويقال له "المهرجان"، وسمي بالعنصرة نسبة إلى شعلة النار التي كانوا يعملونها في تلك الليلة ويقفزون فوقها، ويعرف عيد المهرجان في إسبانيا حاليا باسم San Juan وكان الناس في هذه الأعياد يتبادلون الهدايا ويذبحون الذبائح، كما كان الناس يجتمعون ليلة في نهاية العام قبل حلول "ينير" أو ليلة بعده مع أقاربهم وأصهارهم فيأكلون الإدام والفاكهة، وكانوا كذلك يصنعون الصور في هذه الأعياد، وكان الطلبة يعطلون عن المدارس ويخرجون في رحلات مع شيوخهم، فيأكلون من "المجبنات"، وهي حلوى أندلسية مشهورة، وفي يوم المهرجان كان الناس يلبسون البياض.لاقت هذه الاحتفالات استعدادا وقبولا كبيرين لدى الأندلسيين، يقول الباحث "بسبب ميلهم الواضح إلى الترف واللهو وحب الاستمتاع بالحياة، ومن أسباب ذلك أن المسلمين حكموا جزيرة واسعة كان أهلها جميعا يدينون بالنصرانية، وأن منهم من أسلم ومنهم من بقي على دين أجداده، وكان الفاتحون في بادئ الأمر قلة بالقياس إلى عدد السكان، فلم يعمل المسلمون على حرمان هؤلاء السكان من ممارسة عبادتهم وطقوسهم".لماذا لا يحاول العرب والمسلمون استرجاع روح الثقافة الإنسانية المتسامحة التي سادت تلك البلاد، بدلا من التباكي على "ضياع الأندلس"؟