حسمت أمري وأشعر بالسلام الداخلي وحب الإنسان مهما كانت عقيدته وجنسه وعرقه، ولا عودة لنمط حياتي السابق... بهذه الكلمات اختصرت معالي العسعوسي نهجها وتفكيرها ونظرتها للحياة، بعد خوضها تجربة تطوع خطيرة في اليمن، تواجه فيها الموت كل لحظة، لكنه الإصرار، عن حياتها في عدن، والكثير من الموضوعات الأخرى، كان معها هذا الحوار:

Ad

• بداية، نود أن نتعرف على مستجدات الوضع الإنساني في اليمن، خاصة في ظل حالة عدم الاستقرار التي يعيشها اليوم بسبب الحرب؟

- عندما دخلت اليمن عام 2007، وهو العام الذي بدأت نشاطي الإنساني فيه، صعقت من الوضع التنموي والمعيشي لشعبه، خاصة ان اليمن محاط بدول خليجية غنية، علاوة على طبيعته الساحرة والموانئ والموقع الجغرافي المهم الذي يتمتع به.

بالطبع كانت رحلتي هناك للبدء في مشروع تجاري يهدف إلى أغراض إنسانية، إلا أن الأمور اختلفت وتغيرت لاحقا، ولم يتم تحقيق ما ذهبت لأجله، حيث شاهدت حالة مزرية، فهناك نساء يبعن شرفهن في الشوارع بسبب الفقر، وباعة من الأطفال، ومبان مدمرة وتلوث، وبعد عودتي من اليمن دارت الأفكار في رأسي حول ضرورة عمل شيء لتغيير ما أستطيع تغييره في حياة هؤلاء الناس، وفعلا بدأت بعمل محدود وهو مساعدة 50 أسرة.

وتطورت الأمور على المستوى الإنساني بشكل أكبر بعد عمل عدد من الدراسات وجمع المعلومات، فتعديت مرحلة أن أوفر غذاء وملابس لأناس فقراء، وبدأت في المشاريع الخاصة بالنساء لأنهن مهمشات في اليمن، ووضعنا قائمة أولويات كالتعليم والتوعية الصحية والتمكين الاقتصادي، وقمت بالتواصل مع جهات إنسانية دولية، ووجدت ان اكثر استثمارها الانساني في الاسرة والمرأة تحديدا، إذ إن العائد الانساني اكبر حين يوجه للمرأة على عكس الرجل.

وكانت البداية في اختيار بنات من 6 قرى لتعليمهن وتوعيتهن بخطر المشاكل التي يعيشها من هن في سنهن، كالختان وما يجره من أمراض تؤدي الى الوفاة، وفعلا استطاع بعضهن إكمال الدراسة الثانوية لكن بعد شقاء ومشاكل اجتماعية واخذ تعهدات من ولي الامر وشيخ الدين ورئيس القبيلة.

واستطعت إيجاد المدارس في حضرموت، وبعد عودتي للكويت تواصلت مع الجمعيات الخيرية لمد يد العون، لكني وجدت ان عملية التمكين وعمل الدراسات ليست من ثقافة هذه الجمعيات التي كانت تركز على كفالة اليتيم وحفر الآبار وبناء المساجد.

وهنا أذكر الدور الكبير الذي قدمه لي د. عبدالرحمن السميط، رحمه الله، ولم أتوقع في يوم أن أكون ضمن خط جمعية العون المباشر، كما انا اليوم، بعدها كتبت خطابا لمنظمة اوكسفام البريطانية، ووجدت استجابة من خلال الموافقة على تمويل مشروع التمكين ومشروع القابلات والاسعافات الاولية حتى يتم تدريب الفتيات على العناية بالحوامل ورعايتهن، واستغرق هذا المشروع 4 سنوات.

وبعد هذه الخطوة تعددت المشاريع وكبرت، ووجدت انه لابد من عمل كيان إداري تطوعي يستطيع ان يدير مثل هذه المشاريع التطوعية، ومن هنا كانت مؤسسة تمكين التي تعمل على التعليم والصحة والتمكين الاقتصادي والحرف اليدوية وغيرها.

أما العمل الإغاثي فتم استغلاله للدخول إلى مناطق وقرى يصعب الدخول لها من دون تقديم غذاء وملابس، وخاصة في المناسبات الدينية كالأعياد ورمضان، بعد هذه الخطوة دخلنا في نظام الشراكات مع المنظمات العالمية، حيث نتكفل بالتمكين الاقتصادي، وتقوم هي بأعمال التوعية.

وبدأنا في مشروع حماية المصابات بالايدز، من خلال تسليمهن مشاريع صغيرة، وتم تنفيذ 48 مشروعا، وعملنا مشروع دعم الفتيات وتعليمهن بالتخصصات العلمية التي تحتاجها القرية، فكنا في الحقيقة نستثمر الفتيات لعمل ثورة في منطقتها.

مناطق العمل

• ما المناطق التي تتواجد فيها مبادرة «تمكين»؟

- نحن تأسسنا في صنعاء العاصمة، بسبب تواجد السفارة الكويتية والمنظمات الدولية، لكن عملنا لم يكن في العاصمة، بل شمل مناطق متعددة كحضرموت، حيث نفذنا مشاريع تعليمية ومشروع شبكة الحرف في 7 محافظات اخرى، ومشروع الصحة، وقمنا بمشروع مكافحة السرطان من خلال حملات الكشف المبكر وليس العلاج، لانه مكلف ويحتاج رعاية دول.

وفعلا تم اكتشاف حالات في بداياتها، بعد ذلك بدأنا حملة مكافحة العمى، وهناك منطقة تسمى منجم المياه البيضاء، ومن بين أهم مسببات العمى التغذية والتلوث والتعرض للشمس لمدد طويلة، وهي تسبب المياه البيضاء والزرقاء، وقمنا بالتعاون مع الدولة اليمنية بعمل استراتيجية لمكافحة هذا المرض والتوعية حوله وإشراك المنظمات الدولية لتقديم العون في أعمال الجراحات.

أما أمراض القرنية فيتم تسفيرها لدول أخرى كمصر، كما يتم التعاون في تدشين مشاريع التغذية بالتعاون مع اليونيسف، وهذه مشكلة كبيرة هناك تسببت ولاتزال في خلق جيل قصير القامة (اقزام)، بسبب نقص الفيتامينات، ومع الحرب الجارية الآن نتوقع وضعا اسوأ في هذا المجال.

وهناك مشكلة تعاطي القات، وهي خطيرة، وقمنا بالتعاون مع شركة متخصصة في استصلاح الاراضي بتحويل بعض مزارع القات الى زراعة البن، ونحن نقوم بالتوعية من مخاطر القات جنبا الى جنب مع الشركات المساندة، وخلال 7 سنوات تم تغيير 100 الف مزرعة كانت تزرع القات الى زراعة البن.

تأثير الحرب

• ما تأثير الحرب على أعمالكم وأنشطتكم؟

- الحرب والمشاكل السياسية خاصة في المناطق الشمالية المحاصرة، مثل تعز وما فوقها كصعدة وعمران وذمار، هي في امس الحاجة الى دخول المساعدات الغذائية والمشتقات النفطية والاغاثة الطبية، وشخصيا اصبت بتسمم جراء الحرب، ورغم توفر المال لشراء الدواء لما استطعت الحصول عليه بسبب الظروف التي يفرضها العمل العسكري، وهنا المعاناة حيث يجب عليك الانتظار لأيام حتى يأتي الدواء، وبقيت على المغذيات 3 أسابيع وأحملها معي في الشارع، فما بالنا بالناس الضعفاء الذين لا يستطيعون عمل شيء.

تأثير الحرب فظيع، إحدى السيدات طلبت مني كمية من الأرز بحجم كف اليد، لانها قضت مدة وهي تطعم أطفالها علف الحيوانات، وطال تأثير الحرب العاملين البسطاء الذين يعملون بأجر يومي، فـ7 في المئة من هؤلاء فقدوا وظائفهم بسبب توقف الكثير من الانشطة اليومية التي كانت تساعدهم على العيش، واليوم هم يعيشون على ما يأتيهم من مساعدات، وهي قليلة.

ويتم التقاتل على الغذاء بشكل مخيف، ما يؤدي أحيانا الى مجازر، ونحن نقوم من خلال جمعية العون المباشر بإيصال كميات من الأغذية الى المناطق الخطيرة، لأنها مناطق محتاجة على الرغم من خطورة العمل بها من قبل الأعمال العسكرية والصواريخ وقطاع الطرق.

أما المناطق الجنوبية ففيها أمان أفضل، لكننا نصر على العمل في المناطق الشمالية لأنها الأكثر حاجة رغم خطورتها، والعمل الاغاثي في النهاية ليس تصويرا وظهورا إعلاميا.

الدروس المستفادة

• ما الدروس المستفادة من تجربة العسعوسي في مسألة التطوع؟

- بصراحة هناك مشكلة كبيرة يجب أن أشير إليها، وهي التطوع لمصلحة مذهب أو فئة، وعلى المستوى الشخصي كانت هناك صعوبة في إقناع مكتب العون المباشر بأن تشرف امرأة على مكتب لها في اليمن، لكنهم آمنوا بالفكرة، وانا لدي منهجية معينة في العمل التطوعي وهي توجيهه لمصلحة الانسان.

• لماذا اخترت اليمن؟

- عندما ذهبت الى اليمن كنت أتخيله انه أقل سوءا من الصورة التي شاهدتها، فقد رأيت الفقر بعينه، حيث أطفال وبنات في الشارع، المجاري غير صالحة، أناس عميان هائمون على وجوههم، التلوث البيئي، ومشاكل اخرى، هذه المأساة التي شاهدتها شدتني اكثر للعمل على تغيير ما أستطيع تغييره في هذا البلد، وهذه طبيعة البشر المبنية على الخير كما يقول نيلسون مانديلا، وأنا شخصيا محظوظة لان الله عز وجل ساقني الى هذا العمل.

• بماذا تفسرين موجة التبرع بالثروات من قبل أغنياء العالم الغربي؟

- لاقتناعهم بأن السعادة الحقيقية لا تأتي إلا من خلال العمل الإنساني.

حياة طبيعية

• هل تحدثين نفسك وأنت في اليمن بالعودة الى حياة طبيعية بالكويت؟

- هذا يحدث في أي نفس بشرية، واتساءل لماذا جئت الى هنا؟ لماذا تركت شركتي ووظيفتي الحكومية ووالدتي واخواتي؟ لكن الجواب يأتي سريعا وهو أنني سأقوم بعمل كبير يشبه الحلم.

وكثيرا ما تلومني والدتي على الذهاب لليمن، وكانت تطرح أسئلة تريد من خلالها معرفة الاسباب فأرد وأنا صادقة لا أعلم، لكن هناك شيئا ما في داخلي يقول إن ما أقوم به يجب ان يستمر، فمنذ عام 2007 حتى 2009 كان زمن البحث عن الذات والصراع بين ترك العيش في الرفاهية الى العيش في هذا البلد، وكانت هذه مرحلة صعبة.

• هل تشعرين اليوم بأنك ثابتة على قاعدة التطوع والعمل الانساني وانه لا رجعة لحياة ما قبل 2007؟

- منذ عام 2010 انتهت حالة القلق عندي، وتم حسم الامر، وكان ذلك بعد لقائي مع د. عبدالرحمن السميط، وطلبت منه خلاصة تجربته ونصائح اضعها امامي بعد أن حسمت مسألة الهجرة لليمن.

وبعد صراع دام 3 سنوات داخل الاسرة اصطحبت اخواني للسفر معي في البداية، ثم جاءت الوالدة معي لتعريفها بما أقوم به في اليمن، وعندما شاهدت هذه المؤسسة -تمكين- والموظفين والامكانات صعقت، وبعدها قالت لي: «على قدر ما كنت أعارضك في السابق فأنا اليوم سأقف بجانبك وادعمك»، وهنا شعرت بالراحة.

مواقف خطيرة

• تعرضت لمواقف خطيرة أو محرجة في اليمن؟

- بالتأكيد الأمر لا يخلو من المخاطر، فقد تعرضت للاحتجاز واقتحام المبنى والتهديد، وأتذكر عندما جلست مع الراحل عبدالرحمن السميط واستمعت كنت ارى نفسي فيه، لتشابه المواقف التي تعرضت لها، فكان هناك ما يشبه التواصل الذهني والروحي بيني وبينه.

• هل تشعرين بعد حسم قرارك على المستوى الشخصي بنوع من السلام الداخلي؟

- أنا مرتاحة الآن، وأشعر بالسلام الداخلي الفعلي، ووصلت الى مرحلة السعادة اللانهائية، وأقسم بالله عندما وصلت إلى اليمن فقدت حاسة السمع بسبب شدة القصف، لكن لأن الرؤية والهدف ترسخا في نفسي نحو مشروعي الانساني فلم يعد يهمني ما يحدث حولي.

• ما الذي يقلقك أكثر في المشهد اليمني؟

- خوف الاطفال من صوت القنابل والمتفجرات، وفزع الحوامل، فهل لك ان تتخيل أن هناك قرى كاملة لا توجد بها وسيلة إعلامية تنقل لسكانها ما يجري في بلدهم، لا تلفاز ولا راديو ولا معلومات، هم يسمعون أصواتا فقط، هؤلاء هم الابطال الحقيقيون ولسنا نحن.

تمكين المرأة

• كيف ترى العسعوسي موضوع تمكين المرأة وتأثيره على تحسين وضع المجتمع؟

- المرأة بطبيعتها حاضنة، فهي الام والعاملة، وعندما نفذنا مشاريع التعليم وجدنا حرص المرأة في المشاركة، فمن كان لديها أبناء مصابون بالعمى كانت الأحرص على إجراء عمليات لأبنائها، ويقال «إذا أردت ازدهار المجتمع فاستثمر في المرأة»، وينسحب هذا على الصعيد السياسي والاقتصادي، وهو استثمار يساهم في السلام العالمي.

واليوم نجد المرأة التي تحت خط الفقر هي التي تقوم بالحرث والزراعة والقطف وبيع المحصول في السوق، فتخيل لو قمت بنوع من التوعية مع دور أكبر وإمكانات أفضل، أعتقد أن النتائج ستكون مبهرة، والحقول ستكون بشكل افضل، والانتاج والتسويق سيكونان مبهرين، فتعليم المرأة بلا شك يعود بالنفع على المكان الذي نعيش فيه.

• مشروع أو مبادرة «تمكين» من يضم اليوم؟

- تمكين مشروع إنساني بدأ عام 2007، هدفه إحداث فرق في اليمن، بدأت مع نسوة يمنيات وعدد من الداعمين الكويتيين، وبعدها فكرنا في أن نحولها إلى مؤسسة، وخرجت بدراسات عدة لأولوية المشاريع.

وبعد الاحداث التي وقعت عام 2010 وتأثيرها على مؤسسة تمكين، والتي كادت تعصف بها، قمنا بعمل تواصل مع الحكومة اليمنية لتقوية المؤسسة، وحصلنا على الترخيص، وبعد لقائي د. السميط وزيارة «العون المباشر» لليمن عام 2012، واطلاعهم على علم «تمكين» تم إنجاز 15 مشروعا له صلة بالمياه، واحيوا العديد من المناطق، وقمنا بتنفيذ مشاريع الصحة والتعليم بالشراكة والتعاون، وحاليا أقوم بإدارة كل مشاريع جمعية العون المباشر في اليمن.

ومعلوم أن الجمعية لديها صفة دولية، وتمتلك ترخيصا من قبل وزارة التخطيط والاتصال الدولي اليمنية، ما يعطيها دعما وقوة للتحرك على الارض، ونحن نعمل اليوم على مشاريع نوعية مثل استبدال الوقود التقليدي في تشغيل بعض المراكز الطبية بالطاقة الشمسية، كما هو الحال في مركز علاج امراض الكلى.

تجربة مع «الماساي»

في عام 2004 ذهبت إلى إفريقيا، وعشت مع قبيلة الماساي، وهي وثنية المعتقد، لكن اكتشفت فيهم الصدق والوفاء من حادثة بسيطة، حيث كنت قد جلبت معي أقلاما لعملية التدريس، فسألت أحد أفراد القبيلة كم تحتاج فقال 10 أقلام فقط، فاعطيته 15 قلما، فأعاد إلي الخمسة، وقال لا أحتاج إلا بقدر عدد الاطفال وهم 10.

تعلم الفضائل

شددت العسعوسي على أن تعلم الفضائل والخلق القويم، الذي دعت إليه الديانات السماوية، لا يحتاج إلى قراءة من الكتب، لأن الخير فطرة بداخلنا.

تنوع المتبرعين

عن تجربتها في مشروع تمكين قالت العسعوسي إن المتبرعين لم يكونوا من الكويت فقط، بل من البحرين وقطر وعدد من المسيحيين، و500 متطوع لم أرهم، فتواصلي معهم كان إلكترونيا، ويقدمون لي خدمات متنوعة.

دور الكويت

أكدت العسعوسي أن الكويت بأعمالها الإنسانية غيرت أوضاع دول، ففي اليمن مثلا، وصنعاء تحديدا، تجد الكثير من المشاريع المشيدة منذ الستينيات، ومنها مستشفى الكويت وجامعة الكويت والمدارس التي بنيت منذ عقود، ومن هذه المنظومة تربينا وعاد على سلوكنا ايجابيا.