بعد تقطيع وتدمير وشتات أوطاننا العربية، وضياع الموطن العربي، بما فيه المبدع والمثقف، في الوحشة والعراء والبحار والمنافي والملاجئ والمخيمات، وبعد أن صار المواطن العربي محصوراً بين عنف ووحشية وإرهاب الوطن، وبين عيش الموت في الهرب من الوطن إلى دهاليز المجهول، ما عاد من فرح يمسّ القلب إلا بلقاءات عابرة تكون زاداً للزمن القادم. وإذا كنا في دول مجلس التعاون، ننعم والحمد لله بالأمن والأمان، فإن لقاءات المبدعين والمثقفين صارت قليلة، لكنها ما ان تنعقد فإنها سرعان ما تضخ دماء الود والوصل والحوار والنقاش بين الأدباء والفنانين.

Ad

في زيارة لي بصحبة أسرتي، لسلطنة عُمان خلال الأسبوع الفائت سعدت بعدة لقاءات تركت حلوها على لحم القلب والروح.

اللقاء الأول جمعني بأصدقاء "مختبر السرد العماني" ومن بينهم: محمد اليحيائي، وبشرى خلفان، وجوخة الحارثي، ومنى السليمي، وجاسم الطارشي، ووليد النبهاني. دار الحوار حول عوالم الكتابة الروائية، وشيء من مسيرتي التي جاوزت العقود الثلاثة مع كتابة القصة والرواية. وتطرقت أسئلة الزملاء إلى مناخات وأحداث روايتي (في الهُنا)، وكتابة "التخييل الذاتي"، وإشكالية علاقة المرأة بالرجل، خصوصا حين يكون هناك اختلاف مذهبي بينهما، وكيف تتأزم تلك العلاقة أكثر حين يكون أحدهما متزوجاً ويعيش موزعاً بين علاقته الجديدة وبين زوجته وأولاده، كما تطرق الحوار إلى مناهج الكتابة الإبداعية. ولقد لفتت انتباهي أسئلة الحضور الذكية، وكان أغلبهم من الشابات والشباب العمانيين المتحمسين للسير على درب الكتابة والأدب.

اللقاء الثاني كان في منزل الروائية جوخة الحارثي، بحضور الكاتب والباحث والروائي محمد الحارثي، والمهندس الطيب الحارثي، وهناك غمرتنا الصديقة العزيزة وزوجها بأجواء وكرم الضيافة العمانية، ودار حوار معمّق حول صعوبة وقلق الكتابة الروائية، وتدريس الكتابة الإبداعية، فالدكتورة جوخة الحارثي تُدرّس مادة الكتابة الإبداعية في جامعة السلطان قابوس، وأنا أدرّس المادة نفسها في الجامعة الأميركية في الكويت. وكم كانت دهشتي حين تلاقت اختياراتنا للقصص المقررة، كقصة "نظرة" للقاص يوسف إدريس، وقصة "المغفلة" لتشيخوف.

اللقاء الثالث كان في دار الأوبرا السلطانية، لحضور العرض الموسيقي "طريق الحرير" الذي قدمته فرقة "أورنينا للرقص المسرحي"، بقيادة المخرج السوري ناصر إبراهيم. وكان لافتاً الحضور الأجمل للشوط الكبير الذي قطعته السلطنة، في تجهيز دار أوبرا هي تحفة معمارية رائعة، تجمع بين التراث المعماري العربي العُماني وبين آخر التقنيات المعمارية العالمية لتجهيز قاعات العرض المسرحي. ولقد ازدانت أنحاء دار الأوبرا بوجود الشباب العُمانيين حيثما تلفّت الزائر. ولقد أخذ العرض الجمهور الغفير إلى عوالم موسيقية عربية تستحضر التراث الموسيقي لمختلف البلدان العربية والعالمية.

اللقاء الرابع كان في بيت الصديقة الفنانة عالية الفارسي، وإذا كانت ضيافة وروح عالية قد استحوذت وصبغت زوايا المكان، فلقد كانت لوحاتها وأعمالها التشكيلية حاضرة وناطقة معنا في كل لحظة، فتجربة عالية الفنية متنوعة، سواء على مستوى الموضوع أو الشكل والمادة المستخدَمة في العمل. وتدور مجمل أعمالها حول الإنسان في عيشه ومصيره، مع فسح مجال كبير لاستنطاق عوالم المرأة العمانية.

وأعجبني أن يكون زوج الفنانة الأستاذ وائل اللواتي مشاركاً لمسيرة زوجته، وهو يقدمها بفخر واعتزاز جميلين، يدللان بشكل واضح على تفهم الزوج العماني المثقف لعمل زوجته وعونه المهم لها. ولقد تفتق الحديث عن عوالم الرسم والإبداع، وجرى شبه اتفاق مبدئي بأن نخوض كلانا؛ عالية وأنا، تجربة تواصل الفن التشكيلي مع شيء من القصة القصيرة أو المشهد الإنساني الراعف، كما هي تجربة عالية السابقة مع الصديق الروائي واسيني الأعرج.

خمسة أيام بين مسقط ونزوى، بصحبة الصديق المخلص سامي الحجري، تلونت بالبحر والجبل والصحراء، وبحضور أصدقاء غمرونا بودهم وكرمهم، وتركوا ذكريات عطرة في جيوب الروح.  

ألف شكر لمسقط الحبيبة.