لم يعد مهرجان الجنادرية الذي أطلقه قبل 32 عاماً، الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله تعالى، مهرجاناً محلياً للمهن والصناعات التراثية والفرق الشعبية والأعمال المسرحية والأمسيات الشعرية والفعاليات الثقافية فحسب، بل تطور إلى مهرجان عالمي مشهود، يستقطب المفكرين والعلماء من مختلف دول العالم، بكل توجهاتهم ومشاربهم الفكرية، ويقيم جسوراً للتواصل الحضاري ويعزز ثقافة التسامح وقبول الآخر، ويعمل على صهر مكونات المجتمع السعودي، بكل طوائفه وأطيافه وثقافاته وفنونه وتراثه، في تناغم رائع يعكس صورة مضيئة لمفاهيم التسامح والتعايش والمواطنة، وانفتاح رحب على ثقافات العالم ومكتسباته الحضارية، لتكون الجنادرية، مصدر إشعاع ثقافيا وفكريا على مستوى العالم، يسعى إلى الحوار والتقارب والتعايش وتعزيز قيم الأمن والسلام، كما جاءت وبحق، في الكلمة الافتتاحية، لصاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز، وزير الحرس الوطني، رئيس اللجنة العليا للمهرجان.
كان البرنامج الثقافي لهذا العام حيوياً حافلاً بفعاليات وندوات عديدة، منها: الملك عبدالله (في الذاكرة)، والملك سلمان (في الإنجازات) والسياسة السعودية وعاصفة الحزم والمتغيرات الجيوسياسية، ودور الأسرة في تعزيز الانتماء، والحد من الانحراف والتطرف، وندوة عن الدولة الضيفة (ألمانيا) ودور العلماء في البناء الفكري للشباب، ومستقبل الدولة الوطنية والتحديات.كانت ورقتي حول مستقبل الدولة الوطنية في مواجهة التحديات الكبرى، من أبرزها: أن الأسس المدنية التي قامت عليها هذه الدولة، عبر قرنين، أصبحت اليوم معرضة للتقويض على أيدي الميليشيات العقائدية الضارية التي تسعى إلى تفكيك أركان الدولة، وأخطرها. أن وجود الدولة القطرية، ضمن حدودها التاريخية المتوارثة، أصبح مهدداً بالزوال، في سياق تعاظم ظواهر الانقسام والتفكك والتصدعات الخطيرة للأوضاع العامة ، إثر صعود الهويات الأدنى، الإثنية والطائفية والعقائدية، على حساب دولة "المواطنة" لتنقسم هذه الدول إلى "كانتونات" طائفية متناصرة، وهذا ما حصل إثر الزلزال الربيعي الذي أطاح بركائز الاستقرار في المنطقة، وأخرج من باطنها أخبث غرائزها المكبوتة، عقوداً طويلة، لتنطلق معيثة فساداً وتخريباً وقتلاً وتدميراً، وكان من تداعياته أن دولاً مركزية تفككت وجيوشاً وطنية تآكلت.ما العوامل التي أضعفت الدولة الوطنية؟ 1- إخفاق الدولة الوطنية في ترسيخ مفهوم المواطنة كرابط يعلو الروابط الأخرى، مما أدى إلى تعصب الفرد لقبيلته وطائفته وجماعته، للاحتماء بها من بطش السلطة وطمعاً في المغانم والنفوذ، يؤكده ما حصل في أعقاب الزلزال الربيعي من سقوط الأنظمة الحاكمة، إذ أعقبه سقوط مؤسسات الدولة وتفكك البنية المجتمعية في أشكال انشطارية، وصعود المكونات الدينية والمذهبية والعقائدية، التي كانت تتعايش، قسراً لا طوعاً، قروناً طويلة، بحكم الضرورة وقوة الدولة الباطشة. 2- هجاء الدولة القطرية: بفعل أيديولوجيات قومية ويسارية ودينية، دأبت على اعتبار الدولة القطرية، مواريث سايكس بيكو، ينبغي تجاوزها إلى دولة الخلافة (حلم الإسلاميين) أو الدولة القومية (حلم القوميين) وقد اتضح أنها أحلام خيالية، إذ لا بديل عن الدولة، ولا أمان من الفوضى والاضطرابات بغيابها. 3- تسييس الدين: آفة خطيرة تم توظيفها منذ أن رفع الخوارج شعار "لا حكم إلا لله" سلاحاً سياسياً، واستخدمته السلطات الحاكمة لتعزيز شرعيتها، كما استخدمته المعارضة لنزع الشرعية عنها وتهييج الجماهير ضدها بحجة أنها (لا تحكم بشرع الله تعالى) فأسهم في إضعاف شرعية الدولة، مما يوجب إخراج الدين من التسخير السياسي، فلا ينبغي لأي جهة احتكار الدين، فالدين للجميع، سلطة ومعارضة، كما لا يجوز لفصيل سياسي ادعاء أن فهمه الديني هو الفهم الصحيح الذي ينبغي فرضه. 4 - إضعاف المؤسسات الدينية التقليدية من قبل الأنظمة الثورية التي استولت على الدولة الوطنية بعد رحيل المستعمر، واعتبرت المؤسسات الدينية عقبة أمام برامجها التحديثية، فعملت على إضعافها، لتنتج تنظيمات تدعي أهليتها الشأن الديني.ختاما: تبقى الإشادة واجبة بجهود اللجنة التنظيمية والمشرفة، والأمل في تحويلها إلى مؤسسة تعمل على مدار العام حرصا على تراكم الخبرات وضمان انتقالها عبر الأجيال.*كاتب قطري
مقالات
الجنادرية ومستقبل الدولة الوطنية
15-02-2016