وجهة نظر: دعم الطاقة والمياه أم دعم «الأثرياء»؟!
• ملفات الهدر كثيرة ومتشعبة ولا تقتصر على الدعوم لكن التحفظ على إصلاح مستحق كيل بمكيالين
• ثوابت القياس المنصف تقتضي التصدي لثقافة الإسراف والبذخ التي امتدت إلى كل شيء
• ثوابت القياس المنصف تقتضي التصدي لثقافة الإسراف والبذخ التي امتدت إلى كل شيء
«ما من شك في أن مواقع وملفات الهدر والإسراف في الكويت كثيرة ومتشعبة، وهي لا تقتصر على انعدام العدالة في أنظمة الدعوم، بل تمتد إلى العمولات والصفقات المشبوهة، وإلى تطاير حصى الطرق المعبدة، وإلى تجاوزات العلاج في الخارج، وإلى غير ذلك».
لتقلبات أسعار النفط الخام تأثير شديد على قيمة الدعم المخصص لقطاع الطاقة عموما، أي الوقود والكهرباء وأيضاً الماء (حيث ان نشاط تقطير وتحلية المياه في الكويت يرتبط بنشاط توليد الكهرباء). فمع ارتفاع سعر النفط، ترتفع التكلفة الحقيقية (أي تكلفة الفرصة البديلة) للدعم الحكومي المقدم لإنتاج الكهرباء والماء والوقود.وحين ينخفض سعر النفط الخام يحدث عكس ذلك، اذ تنخفض فاتورة الدعم الحكومي، أي أن قيمة الدعم الحقيقي الموجه الى المنتج أو المستهلك المحلي تقل، ويقل معها بالضرورة أثر وفعالية هذا الدعم.ويعد دعم الطاقة في الكويت من بين أسوأ أنواع الدعوم، فهو دعم أفقي أي أن كل فرد -غنيا كان أم معوزا- يحصل على السلعة المدعومة بنفس السعر، وهذا أمر يجافي العدالة، اذ يستفيد منه الغني بدرجة أكبر، لأنه يستهلك كمية أكبر من السلعة، وتقتضي توخي العدل تبني الدعم الرأسي الذي يوفر السلعة المدعومة بسعر أقل لفئات الدخل المنخفض، وبأسعار تتدرج في الارتفاع مع زيادة الدخل.أي أن نظام الدعم الحالي في الكويت لا يأخذ في الاعتبار تفاوت مستويات دخل الأسر أو الأفراد، كما يصرف النظر عن طبيعة استخداماتهم للسلعة المدعومة (استهلاك فردي أو صناعي أو استثماري)، بل لا يقيم وزنا لأحجام مشترياتهم منها، وهو بالتالي نظام يخلو من البعدين الاقتصادي والاجتماعي اذ لا يهدف الى مساعدة الفئات ذات الدخل المحدود أو المنخفض، بل على العكس تستفيد منه بدرجة أكبر الفئات ذات الدخل المرتفع، أي الأغنياء الذين هم ليسوا بحاجة حقيقية له.دعم الهدر والإسرافويؤدي هذا النمط الأفقي من الدعم إلى الإفراط في استهلاك السلع المدعومة، أي الى الإسراف والهدر خصوصا من قبل الفئات ذات الدخل المرتفع، فهي القادرة على امتلاك الفلل الفارهة والأعداد الأكبر من السيارات الفاخرة، ومن ثم تكون هي الأكثر استفادة من الدعم، وتؤكد البيانات المتاحة أن هذه الفئات تحصل على نصيب الأسد من دعم الطاقة والمياه في الكويت. علاوة على ذلك، يفقد الدعم الأفقي خاصية أساسية من خواص الدعم الرأسي، فكل الأنشطة المؤسسية والاقتصادية المحلية تحصل على الوقود والكهرباء والماء بنفس الأسعار التي يحصل عليها أي مستهلك آخر، سواء كان استهلاك هذه الأنشطة بقدر حاجتها الفعلية أم باسراف ناتج عن إهمال أو تقصير في مراقبة طريقة استغلال العاملين لديها للسلع المدعومة.أي أن المؤسسات المحلية لا تحظى بأي معاملة تفضيلية حقيقية تشجعها على الحد من الإسراف أو تطوير وتحسين تعاملها مع موارد الطاقة والمياه، حيث ان الجميع مدعوم بصرف النظر عن سلوكياته، وبصرف النظر عن مدى اهتمامه بالحفاظ على البيئة، وبصرف النظر عن درجة التزامه بمسئوليته الاجتماعية. وللدعم السخي والموحد عواقب وسلبيات كثيرة، من شأنها أن تسهم على المدى الطويل في غرس حالة مجتمعية مرضية خطيرة عنوانها ثقافة الإسراف والبذخ والتبذير واساءة استخدام الموارد. ولا يتوقف ضرر هذه الثقافة عند حدود التعامل مع موارد الطاقة والمياه فحسب، بل يمتد الى كل شيء آخر. فمظاهر الهدر والبذخ في الولائم والمناسبات، والهوس الاستهلاكي المفرط، والتهافت على تملك السلع الفاخرة بهدف التظاهر والتباهي حتى من قبل غير الميسورين ماديا، وغير ذلك من سلسلة السلوكيات غير العقلانية، ما هي الا تعبير عن هذه الحالة المرضية.البديل الأكفأإن البديل الأمثل والأكفأ والأكثر عدالة من نظام الدعم الحالي الموحد الذي لا يميز بين من يحتاج الى الدعم وبين من لا يحتاجه من ميسوري الدخل والثروة، هو اعادة توجيه الدعم الى مستحقيه من الفئات منخفضة ومحدودة الدخل، والحد من تدفقه الى من هم في غنى عنه، وذلك وفق برنامج زمني تدريجي. ان أحد أهم المداخل المتاحة لتحقيق ذلك هو اتباع نمط تسعير كفؤ في قطاع وقود المركبات من شأنه الحد من زيادة الطلب على وقود لا يتناسب ومتطلبات تشغيل المركبة، واتباع نظام شرائح الاستهلاك في قطاع الكهرباء والماء، أي فرض سعر تصاعدي يزيد مع انتقال المستهلك من شريحة استهلاك الى شريحة أعلى.وما من شك في أن مواقع وملفات الهدر والاسراف في الكويت كثيرة ومتشعبة، وهي لا تقتصر على انعدام العدالة في أنظمة الدعوم، بل تمتد الى العمولات والصفقات المشبوهة، والى تطاير حصى الطرق المعبدة، والى تجاوزات العلاج في الخارج، والى غير ذلك.ولكن هذا لا يبرر الوقوف في وجه الدعوة الى اصلاح وترشيد نظام الدعم الذي يستفيد منه غير المحتاجين اليه من أصحاب الدخول المرتفعة، ولا يستفيد منه المستحقون له الا بالحد الأدنى.الموقف السلبي من مسألة مستحقة كهذه لا يمكن قبوله تحت أي مبرر كان، سواء عبر محاولة ربطه بمطالب وشروط سياسية معينة، وان كانت مستحقة، أو من خلال الدعوة الى تأجيل الترشيد ومعالجة جوانب الهدر الأخرى أولا، فهذا يعني شرعنة نظام تنقصه العدالة وقبولا لاستمرار الهدر في قطاعي الطاقة والمياه، واعتباره هدرا ثانويا رغم خطورته وفداحة آثاره.إن ثوابت القياس العقلاني المنصف والمنطقي تقتضي دعم الاصلاح والترشيد، والتصدي لكل مظاهر الهدر والإسراف والتعدي على المال العام، ورفض كل السياسات والإجراءات والممارسات الخاطئة أيا كان مصدرها، وليس المفاضلة بين التعديات، فهذا لعمري كيل بمكيالين.* أستاذ الاقتصاد –جامعة الكويت