لم أكن قد شاهدت عملاً من المسلسلات الدرامية التلفزيونية، التي أنجزها المخرج اللبناني فيليب أسمر، الذي ولد ببيروت في 17 فبراير 1987، لكنني لم أفوت فرصة مشاهدة فيلمه الروائي الطويل الأول {السيدة الثانية}، الذي كتبته كلوديا مرشليان.
يعتمد الفيلم على فكرة طريفة محورها {دهب} (ماغي بو غصن) و}رضا} (باسم مغنية)، خطيبان يعانيان البطالة، عقب تخرجهما في كلية الفنادق، وكادا يفقدان صوابهما، بعد تلقيهما مكالمة مجهولة تزف إليهما خبر تعيينهما في القصر الجمهوري، لكن الفرحة تنقلب إلى صدمة مع اكتشاف {رضا} أن وظيفتهما لا تخرج عن تذوق الطعام والشراب قبل {الرئيس} (جوزف بو نصار)، كونه مُهدداً بالاغتيال، ويرى أن الاغتيال بالسم، سواء ببيضة طازجة أو فخذ دجاج أو شربة ماء، أشد خطراً من قنصه بالرصاص أو استهدافه بالمتفجرات. لكن {دهب} ترفض اقتراح {رضا} بمغادرة القصر، وتؤكد له أنهما ميتان فعلاً، وأن في اختيارهما رسالة إلهية ليقوما خلالها بدور الوساطة بين أهل الحي والرئيس!فكرة جميلة سبق للسينما المصرية تقديمها في فيلم {جواز بقرار جمهوري} (2001)، بطولة كل من هاني رمزي وحنان ترك. لكن الكاتبة كلوديا مرشليان والمخرج فيليب أسمر كانا أكثر حساسية وإنسانية في معالجتهما القضية، والنتيجة التي انتهيا إليها، مقارنة بما فعله الكاتب محسن الجلاد والمخرج خالد يوسف، خصوصاً مشهد تكدس الشكاوى داخل القصر الرئاسي، فضلاً عن الشاحنتين المحملتين بشكاوى جديدة وتنتظران خارج القصر. كذلك أبدع المخرج فيليب أسمر في توظيف التصوير والإضاءة (بشير الحاج)، وتكثيف اللحظة العاطفية التي قرأت فيها {دهب} الرسائل على الرئيس والسيدة الأولى (نهلة داود)، ورصدت تفاقم الشكاوى والمعاناة من ضياع الهوية والخصوصية، وتدهور الصحة والعلاج، وانتشار القمامة، وإن طغى الشكل المسرحي على المشهد، قبل أن يعود المخرج إلى إبداعه بإخراج {الرئيس} من {الكادر}، وتسويد الشاشة، ثم ظهوره وهو مغلوب على أمره في مقعده، واتهامه الديمقراطية بتكبيل يده، والحيلولة دون اتخاذ القرار الذي يخفف المعاناة!{السيدة الثانية} في فيلم فيليب أسمر هي {دهب} التي احتلت مكانة في القصر الرئاسي، بعدما كشفت عن شخصية مُحببة تتمتع بنخوة وأصالة وشهامة، وأعادت الضحكة، ومعها البهجة والحيوية، للقصر، ما قربها من {السيدة الأولى}، ودفع الأخيرة إلى النزول إلى الشارع، ومشاركة أهل الحي فرحتهم وأحلامهم، قبل أن تتخذ الأحداث منحى ميلودرامياً عجيباً مع ظهور {ألماظة} أو {دياموند} (ماغي بوغصن) شقيقة {دهب} التوأم، التي ترقص في الحانات الشعبية، ودأبت {دهب} على تحاشي ذكرها، أو الإتيان على سيرتها، حيث بدت الكاتبة كلوديا مرشليان شديدة التأثر بالأفلام المصرية القديمة. وجاء ظهور الشرير {فحمة} (فؤاد يمين) مدير أعمال {ألماظة}، ونجاحهما في اختطاف {دهب} تمهيداً لتقمص شخصيتها، والتسلل إلى القصر لتدبير عملية اختطاف ابن الرئيس، ليخصم من رصيد، وأسهم، الفيلم، الذي تحوّل، فجأة، إلى عمل مرتبك طموحه أكبر من إمكاناته، فالقصر معزول عن الشعب، والأمراض لا تصيب قاطنيه، لأنه يزرع طعامه من دون مبيدات كيماوية مسرطنة، والكوميديا الناتجة من ظهور {ألماظة} في القصر بدلا من {دهب} غليظة وسمجة، ومشاهد {فحمة}، الذي يصف نفسه بأنه مواطن ممسوخ، ويحاول السيطرة على {دهب} وكأنها {ماريونيت}، تبدو خارج السياق تماماً كالخلل النفسي لوالدي الشرير وصمتهما غير المبرر على جرائم ابنهما، وظهور إعلان فج يوفر وظيفة لا تهم فيها المؤهلات لكن يُشترط أن تكون الفتاة {حلوة وجريئة}! في هذا السياق المضطرب، يفاجئنا كل من المخرج الشاب وكاتبة السيناريو بمشهد يحمل دلالة كبيرة تظهر فيه الطفلة غير الشرعية {بيروت}، وهي تبكي العاصمة اللبنانية التي تحترق وتنهار، وحوار حول {الناس الموعودة التي ستظل موعودة}، ومواجهة لها أهميتها ترفض {ألماظة} خلالها تحميلها مسؤولية ما حدث، وكأنها السبب في اندلاع الحرب الأهلية، وفشل لبنان في أن يتحوّل إلى سويسرا الشرق، وتتشبث بموقفها لدرجة أنها ترفض الخروج من السجن، وترى أنها حرة في داخله أكثر من خارجه. لكن الفيلم ينتهي بمشهدين لا يمكن تجاهلهما، إذ ترفض {دهب} مصافحة {ألماظة} في إقرار باستمرار الخلاف، وربما تجدد الحرب الأهلية، بينما يشهد الحي نزوحاً جماعياً، أثناء أداء الرئيس اللبناني الجديد القسم الدستوري، وكأنه إيذان ببدء رحلة شتات أو حلم بالجنة الموعودة!في تجربته الأولى يُعلن المخرج الشاب فيليب أسمر عن نفسه، ويرتكب، كالعادة، أخطاء التجربة الأولى، على رأسها تباطؤه في التخفيف من أفكار وقضايا أثقلت كاهل الفيلم، والالتجاء إلى الصنعة والخطابة، والمباشرة، و«الكليشيهات}، لكنه – في كل الأحوال – قدّم نفسه من خلال فكرة طازجة أحسن اختيارها، وسخرية لم تغب عن مواقف الفيلم، وسياسة امتزجت والواقع الاجتماعي، من خلال أداء غاية في الإقناع من الممثلين: ماغي بو غصن، جوزف بو نصار، عمر ميقاتي وباميلا الكك وموسيقى رائعة للفنان زياد الأحمدية.
توابل
فجر يوم جديد: «السيدة الثانية»!
13-03-2016