فيلم «لي قبور في هذه الأرض» لرين متري... رواية الحرب في لبنان بماضيها وحاضرها

نشر في 03-04-2016 | 00:01
آخر تحديث 03-04-2016 | 00:01
عندما انطلقت المخرجة رين متري في مغامرة تصوير فيلم حول الحرب التي عصفت بلبنان وفق رؤيتها مستلة مشاهدها من الواقع من دون رتوش، لم تكن تعلم أن {لي قبور في هذه الأرض}، سيمنع من العرض في لبنان بقرار من الرقابة في 16 يونيو2015، بحجة أنه يثير النعرات الطائفية ويمثل تهديداً للسلام الوطني، فيما عرض في مهرجانات دولية ولقي الثناء والتقدير آخرها في «مهرجان القاهرة الدولي لسينما المرأة» (27 فبراير- 3 مارس 2016).
رواية الحرب في لبنان من وجوه مختلفة واستمرار تداعياتها في المجتمع، رغم توقفها منذ سنوات طويلة، يرويها فيلم {لي قبور في هذه الأرض} من خلال صور وشهادات من الذاكرة، تعيد رسم مآسٍ حفرت في النفوس في جيل الحرب وفي الجيل الذي تلاه وظهرت تداعياتها جليّة في اصطفاف المجتمع طائفياً ومذهبياً، فبات لبنان مربعات أمنية وكانتونات يسيطر عليها أمراء الحرب، متسائلة: أين هو التعايش الذي يتغنى اللبنانيون به؟

تنطلق رين متري من حادثة تهجير منطقة الدامور (1976)، لإلقاء الضوء على المآسي والقتل والتشريد والعنف التي مارستها الأطراف كافة، ولا تزال إلى اليوم تبرر فعلتها بحجج أقلها الصراع على البقاء...

توثق رين متري، على مدى ساعتين الذاكرة الجماعية على مدى سنوات طويلة بدأت في سنة 1975 ولم تنتهِ. ذلك أن الآفات التي سببت الحرب في لبنان ما زالت جاثمة على صدر المجتمع، والدليل الاصطفافات الطائفية والمذهبية التي تعصف بالبلد وكأن أحداً لم يتّعظ مما حصل على مدى خمس عشرة سنة.

خطر على التعددية

بعد وفاة والدها تقرر رين متري بيع الأرض التي تملكها في بلدتها المسيحية لمسلم، فيواجه قرارها حملة شرسة من المحيطين بها، ما فتح عينيها على  الصراعات المناطقية والديموغرافية الدائرة، وعلى الخطـــر الــــذي يهــدد التعددية في المجتمع اللبناني، لا سيما أن ثمة رهاباً ديموغرافياً بين السنة والشيعة والمسيحيين، تغذيه قصص من زمن الحرب الأهلية، حين كان القتل على الهوية عادة مارسها كل من حمل سلاحاً.

 تستقي رين متري عناصر الفيلم من ذاكرتها الشخصية ومن تاريخ بلدها. وبالموازاة مع هذه الرحلة الجغرافية، حوّلت شقتها إلى معرض صور وخرائط علقتها على الجدران، بالإضافة إلى عرض فيديو، وتركيب صوتي وقراءات من كتب التاريخ.

انطلاقاً مما حدث في بلدتها، تسجل رين متري شهادات مع مقاتلين شاركوا في الحرب اللبنانية وراحوا يتذكّرون تفاصيل حول إقامة الحواجز والقتل على الهوية والمذابح التي ارتكبت وتفكك البلد، والخوف والكره والتعصب القبلي. وهو الأمر نفسه الذي يحصل في المنطقة العربية اليوم التي تعاني بدورها النزوح والتهجير والطائفية والمذهبية.

وحيدة في منزلها الفارغ، تسترجع متري الماضي عبر صور معلقة على الجدران، وتتذكّر طفولتها، وكيف أحرقت بلدتها وهُجّرت منها، وتتساءل: كيف يمكن التحدث عن حرب لم نعرف أن نسميها، ولم يقبل أحد بتحمّل مسؤوليتها؟

أرادت المخرجة أن تعطي الكلام لأطياف الشعب اللبناني على اختلافها،  وللفلسطينيين الذين ينبغي تحميلهم كل خطأ، لكنهم بالنسبة إليها أكبر الخاسرين في هذه الصراعات الدموية، معتبرة أن قصص هؤلاء جميعهم تكمل رواية الحرب في لبنان من زوايا مختلفة.

 الإنسانية والتسامح والاهتمام... هذه الصفات وغيرها تغلّف بها المخرجة شهادات محاوريها، تعطيهم الكلام فترة طويلة، وتسمح لهم بالتعبير، من دون تحدّ، والانخراط في بعض الأحيان في مناقشة طفيفة تدفع الحديث حول الأرض على نحو متزايد وأكثر تعقيداً.

كانتونات وجهاديون

من خلال الشهادات المتعددة والمتنوعة، تلقي متري الضوء على التغير في النسب السكانية المتعلقة بالديانات المختلفة على حساب المجتمع المسيحي الذي بات يبحث عن كانتونات مسيحية أو فيدرالية، في ظل ظاهرة الجهاديين السلفيين الذين يسعون إلى إبادة من لا يتبعون مذاهبهم، ما يجعل الغد فارغاً حتى من الآمال... ويمتدّ الخوف من الآخر إلى أبعد من حدود تعريف الهوية والانتماء... في المقابل تصوّر متري الوسط التجاري في بيروت، ودور الرئيس رفيق الحريري الذي تولى رئاسة مجلس الوزراء بعد الحرب في إعادة البناء.

لا يدعو الفيلم الى التفاؤل. لبنان الذي تصوّره متري، عاش ماضياً ثقيلاً لا مستقبل له. رغم معاناة خمسة عشر عاماً من الحرب، ما زالت الأسلحة منتشرة في كل مكان، وتتساءل المخرجة: كيف نسامح الآخرين، فيما نحن مهددون باستمرار؟

ويضجّ الفيلم بالتناقضات التي نجحت متري في إظهارها ببراعة، فتكاملت الصور والشخصيات، ودفعت المشاهد إلى التأمل بصمت حول ما آل إليه وضع البلد مع أنه يبقى الوحيد القادر على لمّ الشمل.

تكمن أهمية الفيلم في أنه يشكّل أساساً لبناء الذاكرة الجماعية، وتأريخ فترة الحرب موضوعياً، ومن دون تهرّب من مواجهة الوقائع كما هي، لذا لقي إقبالاً جماهيرياً لدى عرضه في المهرجانات العالمية، وما زال ممنوعاً في لبنان.  

back to top