«ولكني شقيت بحسن ظني»!
هكذا تغنّى الشاعر بتلك الكلمات، وجَعاً، ذات خديعة شنيعة، وخذلانٍ مؤلم، مما يجعلنا نتساءل: ما هو الثمن الذي قد ندفعه مقابل ظنوننا الطيبة بآخر؟! ما هي كُلفة صلوات أماننا التي وضعناها في محراب شمائله التي تعشمنا بأنها تقيّة، وطمأنينتنا التي أودعناها في ذمة خُلقه الذي افترضنا سلفاً أنه كريم؟!إذا ما أخفقنا في حسن ظننا، فإن الثمن الذي ندفعه جراء ذلك غالباً ما يكون باهظاً لا تتحمله خزنة قلوبنا، وإن الكلفة جداً عالية، تصل أحياناً إلى ما يشبه إزهاق الروح، وإقامة كرنفال دام لعيد الجروح!
حسن الظن أو كما نسميها في لهجاتنا الدارجة "القهوة البيضاء"، في كثير من الأحيان تصبح قهوتنا السوداء التي نمررها في سرادق أحزاننا المقامة بين حنايانا إثر موت مأمن، وانهيار يقين بشخص كنا نجزم إلى ما قبل لحظات أنه أقوى ملاذاتنا، وأشد حصوننا، وأكثر ملاجئنا منعة.إن ذلك لشعور مر، تكاد مرارته تسد مجرى الهواء فيخيل لمن أصابه أنه سيموت اختناقاً، أو احتراقاً من هول ما ترتل الصدور من آيات النار، ولهذا كان العرب قديماً بحاجة لاختراع مَثل أو حكمة أو تعويذة ما تقيهم شر حسن الظن وسوء عمله، فابتكروا المثل القائل: سوء الظن من حسن الفِطن! فسوء الظن يحمي من براءة القلب، ويقي من عواقب الطُهر عند التعامل مع الآخرين، فهو ذلك الساهر أبداً لمراقبة مشاعرنا من الداخل، ليقرص أذن الريبة لتصحو كلما أصاب جفنيها خدر، وليُبقي جمرة الشك حيّة في موقد العقل كي لا تموت مهما أمطرها آخر بالأمان!سوء الظن هو سترة القلب المضادة لرصاص الغدر، ومانعة صواعق الخداع، والحصن المقاوم للانهيار، إنه أصدق تطبيق للحكمة القائلة: الوقاية خير من العلاج، فبدل أن نطوي الأرض ونحاول العروج للسماء بحثاً عن دواء ربما لن نجده لما أصابنا من داء حسن الظن، فمن مبدأ الحيطة والحذر أن نغرس أشجاراً متشابكة من سوء الظن لتشكل سوراً منيعا حول قلوبنا كمصدات لرياح الغيلة التي قد تهب فجأة من جهة كنا قد أمناها وأمنّا سيوفها أن تغتالنا بغتة.الإشكالية هي أن هذه الأشجار الكثيفة المتشابكة تحجب الرؤية عن القلب، وتشكل ساتراً حول البصيرة، فلا نعود قادرين على رؤية جميل في الناس أو الحياة، مما يضاعف من وحدتنا، ويزيد من وحشة أرواحنا، وينمي خوفنا إلى حد عدم القدرة على الإحساس بالطمأنينة لأي أحد أو لأي شيء، ويصبح الشيء الوحيد الذي نطمئن له هو شكنا وارتيابنا، نرقب كل جمال من بُعد، مخافة الاقتراب منها حتى لا نقع في فخها، نكاد نؤمن بأن كل فرح لابد أن يكون عاقبه جرح، وكل ابتسامة مآلها للدموع، لتنتهي بنا الحياة أن تصبح حقل زهور مليء بالألغام، لا يمكن الجري فيه واللعب، أي حقل بائس هذا الذي نحرم فيه متعة اللعب، بين مطرقة حسن الظن وسندان سوء الظن، ما الحل؟!الحل كما يقول الساسة: هدنة مشوبة بالحذر، لابد أن نستمتع بحسن ظننا المشوب بالحذر، لنستمتع قدر الإمكان بجمال الحياة، ولا مانع من تقبّل بعض الجروح بصدر ظن رحب!