لقد استشرت في دول الخليج العربية ظاهرة شراء البحوث وشهادات الماجستير والدكتوراه، وأصبحت علنية وعامة يتحدث عنها الناس، وتجد الإعلان عن تلك العملية في صحف الإعلان والنشرات، وليست سراً بل علانية، أبحاث لطلبة الجامعة بمختلف التخصصات وبأسعار مختلفة، والتعاقد مع بعض حملة الدكتوراه لإعداد أطروحتي الماجستير والدكتوراه، وكنا نعرف بعض تلك الممارسات من واقع تجربتنا في العمل في الجامعة ونسمع عنها، لكنها أصبحت ظاهرة خطيرة تهدد التعليم في مجتمعاتنا.

Ad

 وما أثارني ودفعني للكتابة عدد ما قرأته مؤخراً عن أرقام مذهلة للبحوث والأطروحات والشهادات المزيفة والأموال التي تدفع في المقابل، وأن عددهم بالآلاف في دول الخليج العربية، فلا يكفي كشف هذا التلاعب بل ملاحقة وتجريم الطرفين البائع والمشتري بوضع قانون يجرم مرتكبي تلك الجرائم، ومن خلال التجربة في الجامعة كنت أكتشف أن البحوث التي تقدم لي من الطلبة في أغلبها إما مستل من الإنترنت دون جهد مبذول أو معدّ من مكتب لبيع الأبحاث، ومن السهولة اكتشاف ذلك، لكن الطالب يراهن على أن أستاذ المادة لا يقرأ كل هذا الكم من البحوث، ولذلك كنت أصر على أن يناقش الطالب بحثه معي، وأحياناً أطلب المراجع والمصادر التي رجع لها، وأود أن أذكر هنا بعض الوقائع، ففي بحث قدمه لي أحد الطلبة يقول "انظر كتبي حول الموضوع"، وعندما طلبت من طالبة مناقشة بحثها قالت بصراحة إن أمها مدرّسة وهي التي عملت البحث! وعندما كنت رئيساً للقسم حاولت مناقشة متقدم للعمل يحمل الدكتوراه فوجدته لا يعرف عنها شيئاً، والموقف حصل كذلك مع آخر في مؤسسة ثقافية وحالات أخرى عديدة نسمع عنها يومياً.

وذات مرة ناقشت الطلبة في أحد شعب مقرراتي حول ظاهرة شراء البحوث، فتحدث بعضهم بصراحة بأنها ميسرة وسعرها مناسب بين 15 و30 دينارا، وأن معظم الأساتذة في الجامعة لا يدققون بل لا يقرؤون هذه الأبحاث!

وهناك تلاعب في منح شهادات الماجستير والدكتوراه في دول عربية ليس بالشراء المباشر كما يفعل البعض ولكن بالسير في إجراءات التسجيل للأطروحة، والإشراف من الأساتذة ومضي الفترة الزمنية ثم الامتحان، والحقيقة أن الأطروحة تعد للطالب، ويقوم بزيارات للأستاذ، ثم يدفع المبلغ المطلوب مع بعض الهدايا، ويكون المشرف قد اتفق مع لجنة الامتحان وتتم الصفقة ويحصل الجهلة في العلم والثقافة على شهادات عليا، ومعظمهم في سن التقاعد، والأسباب هي الوجاهة الاجتماعية والحصول بسهولة على المناصب في مؤسسات الدولة، ولا أحد يسأل كيف حصل هذا الشخص على الشهادة، المهم أنها شهادة ماجستير أو دكتوراه من جامعة وأحياناً جامعات معترف بها، وأنا هنا أستطيع التأكيد أنها من بلدين عربيين من واقع متابعتي للظاهرة، وبعضها تصنع وتطبخ محلياً بأيدي سماسرة ومرتزقة ومزيفين.

 لا يكفي هنا أن نطرح المشكلة وننفعل معها في حينها، ثم تعود حليمة لعادتها القديمة، ويسرح ويمرح حملة تلك الشهادات ومن ساهم في ارتكاب جرائمها بدون رقيب وعقاب، لابد من التحرك لكشفها وإنزال العقاب على البائع والمشتري، وغرس ثقافة قيمة تمنع الظاهرة، فعندما يحدث احتلال في القيم وتتوافر المادة ترتكب تلك الجرائم، والجرائم يجب أن يحاسب عليها مرتكبوها، وتعد حالة شراء الشهادات والبحوث من أخطر أنواع السرقات والتزييف.

عندما يصل الفساد إلى التعليم، وتسهل عملية شراء الشهادات العليا فإن التدهور والانحطاط عناوين المرحلة القائمة والقادمة ما لم تحارب الظاهرة، ليس بمحاسبة الذين حصلوا على تلك الشهادات فحسب، ولكن أيضاً محاسبة الجهات التي تمنحها، وهذه مهمة التعليم العالي في دولنا، وكذلك مهمة الأكاديميين والمثقفين الحقيقيين.