ذات مساء من شتاء ٢٠٠٤، زارني في منزلي بدعوة على العشاء الأديب والسياسي والدبلوماسي الفنان والإنسان الشامل العملاق الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، وذلك بعد أن تشرفت بتقديمه للجمهور في صالة التزلج في أمسيته الشعرية التي أقامها في الكويت حينها.

Ad

جلسنا نستمتع بأنهار (أبو يارة) المتدفقة من شائق أحاديثه في شؤون الحياة كافة، بحضور كوكبة من الأصدقاء والأحباب، بعضهم من شعراء وأدباء الكويت والمهتمين بالشأن الثقافي، وإذا (بسِبْطَتي) الصغيرة ذات الربيعَين آنذاك تقتحم المجلس راكضةً لتستقر في حضني الذي اعتادت أن تجد فيه دفء حنان الجد، وتعلّقه بصغاره كمِثل غيره ممن حباهم الله نعمة الأبناء وأبنائهم.

سألني المرحوم الدكتور غازي وبقية الحضور: من تكون هذه الوردة؟ فأجبتهم إنها (كنْدَة) الطفلة الأولى من الأسباط والأحفاد (حفظهم الله جميعاً)، واسمها وشبهها نفس اسم وشبه خالتها الغائبة عن الوعي بحادث طريق اختطف ربيع شبابها قبل عقد من الزمان (آنذاك)، وأقعدها في المشافي والمصحّات.

انهمكنا أنا والطفلة الصغيرة تلاعبني وألاعبها بين ضيوفي حتى غلبها النعاس، فحملتها على كتفي إلى أمها (ابنتي)، وعدت إلى حيث المجلس الذي تمنّى جميع من فيه الشفاء (لكندة) الكبيرة، والحياة الطّيبة (لسَمِيّتها) الصغيرة، فشكرتهم وأكملنا الأمسية الرائعة مع الضيف الأروع وصحبه الكرام.

لم أعلم حينها أن واحداً من ضيوف مجلسنا قد تقمّص (مشاعري) بعبقرية لم أعهد مثلها من قبل، وهو الشاعر المُلهَم نشمي مهنا (وضّاح)، الذي (صاغ أحاسيسي) بقصيدةٍ أسمعني إياها عبر الهاتف بعد ليلتين من ذلك اللقاء، فأدهشني وأبكاني واستأذنني بنشرها في "الطليعة"، حيث كان ينشر قصائده آنذاك، وأستأذنه اليوم بإعادة إطلالتها عليكم كما كتبها تقديماً ونظماً، لما تحمله بالنسبة لي من مضامين إبداعية في المحاكاة الوجدانية.

وإذا كنت لا أود أن أثقل عليك عزيزي القارئ بالشأن الخاص، إلا أنني ألتمس منك العذر للكتابة بموضوع اليوم بعد رثائي ابنتي الجمعة الماضي في هذه الزاوية، فقَدَر الكاتب أن يكون ضحية مشاعره وأحاسيسه وذكرياته وقناعاته وآلامه وآماله.

كتب نشمي مهنا (وضاح) بتاريخ ٣١/١٢/٢٠٠٤:

(وراء القصيدة همٌّ وقصة وليست مسألة خاصة أو شخصية، لذا رأيت أن أشرك معي القارئ في إهدائها إلى ذات العامين من الورد... التي كانت أحلى قصيدة في بيت يوسف الجاسم)

يا نهر يلعب على ضفة إيديني

وما سأل من وين نبعه؟!

يا حمامة مسافرة بالريح ما تدري الشمال

(إن دار في غفلة عليها شلون طْبعَه؟!)

إنتي يالغيمة الصغيرة ما سألتي:

تترسين أحضان قلبي أفراح وإلا

تنزلين بليل دمعه؟!

يا صغيرة يالصغيرة إنتي يا (كندة) الصغيرة

ودي أسولف لج عن الهم اللي فيني

لو فهمتي!

ودّي أكسّر لج ضلوعي وأفضح همومي وحنيني... لو سألتي!

إنتي يا (كندة) الصغيرة ما عرفتي

إن تالي اللعب... دمعة!

أنا خزّنت الأماني وقلت يا ليلي تمهّل

عندي (كندة) (صْبَي عيني)

وعندي شوق وعندي رِفقَة

 وعندي شمعة

وإنتِ شمعة، ما يهمها الليل لو أظلم علينا

واحنا يا (كندة) تعبنا..  

العبي فينا ببراءة ياما بألفاظج لعبنا

إلثغي لو نص كلمة ونص اسمج

إنتي يا (كافي ونوني)

كُنْ... كل شي ِلج يكونِ

إيه مو قلنا يا كندة (يا حمامة مسافرة)؟ ويا نهر يلعب إنتي

وانتي يا صبي العيون

اطلبي كل شي يكونْ

يا ربيعٍ مَرْ ما يدري بعَبيره..

يا ثياب اليوسفي لمّا يفوح الجرح وسط بيره!!

يا دموع مخزّنة بالقلب تنطر بَرْق يِفضَحها بسعيره!!

بس خايف يا (كندة) تركضين

بدرب واعي وتسأليني بيوم عن (سر اسمج)!

وتِسألين بكل براءة بيوم عنّه:

( كندة الكبيرة)!!!

تحيّتي وتقديري للشاعر الفذ (نشمي مهنا/ وضّاح) لتجسيده حالتي قبل اثني عشر عاماً بهذه اللوحة التعبيرية الصادقة التي ارتسمت لديه خلال أقل من ساعة، واختزل فيها دهراً من المشاعر الإنسانية المتداخلة في امتحانٍ ودرسٍ إلهي فريد بين ما أخذ ووهب.