عقب اختيار فيلم «الليلة الكبيرة» لتمثيل مصر في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السابعة والثلاثين (11 – 20 نوفمبر 2015)، كان يخالجني شعور بأن لجنة التحكيم الدولية ستتوقف عند الفيلم كثيراً، بسبب أجوائه غير المألوفة، وشكله البصري الجديد، ومذاقه الفني المختلف، وبعد ما خاب ظني، وأعلنت الجوائز، من دون التطرق إلى الفيلم، أو التنويه إليه، انشغلت طويلاً بالبحث عن أسباب الإخفاق!

Ad

 أول الأسباب، في رأيي، أن قضية خلافية كالتي يبحثها الفيلم، في ما يتعلق بالصراع بين «السلفيين» و«الصوفيين»، حول مدى حرمانية زيارة أضرحة آل البيت والأولياء الصالحين، والتبرك بها باعتبارها تقرباً من الله، وأخذ العبرة والموعظة، حسب الصوفيين، بينما يرى السلفيون أنها نوع من الشرك، ليست القضية المحورية التي تشغل بال قوم سوانا، نحن العرب أو المسلمون، خصوصاً أن حواراً كالذي احتدم بين «السلفيين» (مثلهم في الفيلم «الشيخ عزت» محمود مسعود و«إبراهيم» علاء مرسي) و«الصوفيين» (عنهم «الدكتور» محمود الجندي) والآيات القرآنية الكثيرة التي تم الدفع بها، من كل جانب لإقناع الطرف الآخر بحجته، تحتاج إلى «فقهاء» و«مستشرقين» وليس أعضاء في لجنة تحكيم، للتجاوب معها، وفهم معطياتها!

الأمر الثاني، الأهم، أن الفيلم الذي كتبه أحمد عبد الله وأخرجه سامح عبد العزيز، واعتمد على وحدة الزمان والمكان، لا يتبنى موقفاً صارماً أو محدداً حيال القضية المطروحة، ففي حين تبني وجهة نظر الصوفيين، التي تحلل زيارة الأضرحة باعتبار «آل البيت والأولياء الصالحين» وسطاء للتقرب من الله، أوحى بأن «التمسح بالأولياء حرام»، وأن من يلجأ إلى هذا هم حفنة من «المجاذيب»، فالحصيلة، كما رأيناها، تحمل الرأي ونقيضه. وكما أن «حب آل البيت» يستحوذ على الفقراء والأغنياء، فإن «المجاذيب» تواجدوا بالفعل، سواء بشكل مباشر (صبري فواز) أو غير مباشر (أصحاب الحوائج والنفوس الملتاعة). بل إن المؤلف ينسف القضية برمتها عبر المشهد الذي تكفر فيه الأم (وفاء عامر) بالولي «صاحب الكرامة والخطوة»، وتتمرد عليه بأن تهز حديد المقام، ظناً منها أنه كان سبباً في موت ابنتها (زينة). وتنهار القضية مرة أخرى، بتأكيد المؤلف، على لسان عمرو عبد الجليل، أن الأجانب الذين جاؤوا لزيارة مولد ومقام مولاي عرش الدين الأنصاري، برفقة محافظ الإقليم، كان هدفهم أن «يطمئنوا إننا لسه بنفقر ولا بدأنا نفكر»، وهو اعتراف ضمني من المؤلف نفسه بأننا «متخلفون»!

ثالث أسباب الإخفاق أن الفيلم حفل ببعض اللوغاريتمات الدرامية، والميلودرامية، كما فاجأنا بنهاية ملحمية لجأ من خلالها إلى لي ذراع الدراما، حيث أظهر الأبطال جميعاً وكأنهم في «يوم الحشر»، الذي لن ننجو منه من دون «المصالحة» و«التسامح» و«مواجهة الفكر بالفكر وليس بالقوة»، والتكاتف بين جميع الطوائف، من دون إقصاء فصيل أو استبعاد تيار، لإنقاذ الوطن من المحنة (عبر المخرج عن ذلك بسقوط البرتقال من عربة اليد، وإسراع السلفي والصوفي والكل إلى جمعه وإعادته!)، وفي حال حدوث هذا سينهمر علينا الخير (عبر المخرج عنه بمطر غزير!)، وسيبقى بصيص الأمل (ضحكة الأم وابنها)، ويعم السلام على الأرض (حمامة بيضاء ترفرف في السماء)، وفضلاً عن المباشرة الواضحة تبقى علامات الاستفهام كثيرة حول ماهية، وتوقيت، دعوة «المصالحة» و{التسامح» التي تبناها الفيلم!

ربما غرقت لجنة التحكيم في متاهة القضية الجدلية، التي لا تعنيها، لكن يظل السؤال: «لماذا لم تلتفت إلى إبهار «الليلة الكبيرة»، سواء على صعيد الصورة (كاميرا جلال الزكي) أو القطعات (مونتاج شريف عابدين) وتصميم الملابس (مونيا فتح الباب) والديكور (عماد الخضري) وموسيقى خالد داغر، التي استلهمت التراث، والفولكلور، ووظفت الإنشاد الصوفي»؟

لا أنكر أنني تخوفت من كثرة الممثلين في «الليلة الكبيرة»، وما يمكن أن تتسبب فيه وفرة الشخصيات الدرامية من تهميش وتشويش واضطراب وإرباك لعملية التلقي. لكن المخاوف سقطت مع الاستثمار الجيد لكل ممثل في موقعه، وإفراد مساحة لكل شخصية لتصرخ بمأساتها الإنسانية من دون تمييز أو احتفاء بشخصية على حساب الأخرى. ونجح أحمد رزق في تقديم أداء يجمع بين الطرافة والمأساة، وشهد الفيلم عودة طيبة لوائل نور. لكن يبقى مشهد اكتشاف عمرو عبد الجليل أنه سيتزوج ابنته التي أنجبها من علاقة غير شرعية بمثابة الثغرة التي جعلت من الفيلم ملهاة وكارثة، والأمر نفسه ينطبق على اختيار «عبد الجليل» لتجسيد دور المنشد الصوفي، فالشكل جيد لكن المضمون سيئ، خصوصاً وهو يؤدي الدور بصوت مستعار. وبالغ الفيلم وصبري فواز، في رسم شخصية  «المجذوب»، الذي ينطق بالعقل والحكمة ومُطلع على كل الأسرار، على عكس تألق سامي مغاوري في مشهد المكاشفة الموجعة، وامتلاك الفيلم بعض الإفيهات الرقيقة البعيدة عن الغلظة، والقصص الإنسانية التي تستدعي التعاطف،  وتفصح عن مآس حقيقية سببها الفقر والجهل!