في السياسة كل شيء يقبل البحث والتحليل، الثابت هنا يمكن تحريكه هناك، والمتحرك هناك، قد يكون مصيره ثابتاً هنا، والكذب قد يجمل ويسمى دبلوماسية، لذا توصف السياسة بأنها فن الممكن، ونادراً ما تسمى أو توصف بأنها مهنة رجال الدولة والنخبة من الثقات في الإدارة الداخلية والخارجية للدول.

Ad

في صالونات النخبويين كثيرون يتغنون بميكيافيللي، وكسينجر، وغيرهما من السياسيين وأصحاب الفكر السياسي والاجتماعي، والنادر من يذكر السياسي الحصيف المتمكن، رجل الدولة الحقيقي رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم، عندما تجلت عبقريته السياسية، في صلح الحديبية.

عندما أذكر نبينا، صلى الله عليه وسلم، فإنني أشدد على أن السياسة هي أداء لإدارة الأزمات، أو الدولة بنفَس إداري رصين، ونظرة بعيدة المدى، تأخذ في الحسبان ما جرى في الماضي، والوضع الحاضر، والنظرة العميقة للمستقبل مع التعامل وفق القدرات والإمكانات المتاحة، واستغلالها خير استغلال لتحقيق المصلحة المطلوبة.

والكل يعلم حجم التنازلات، وما جرى من مفاوضات في صلح الحديبية، وتجلت فيها النظرة المستقبلية البعيدة النظر لنبينا الكريم، حينما قدم المصلحة العامة، وفق رؤيته، صلى الله عليه وسلم، في إدارة الوضع بسياسة شرعية سليمة، آتت ثمارها فيما بعد، وهي الرؤية التي باركها الله في سورة الفتح: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثـَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ سورة الفتح (18 - 19).

أقول ما سبق، وأنا أتابع ما يجري في مفاوضات جنيف بين وفدي النظام والمعارضة السوريين، ولاحظت أن الوضع التفاوضي ليس كما ينبغي، وواضح أن الرؤية المختلفة بين الطرفين، لا تشجع حتى على التفاؤل، وهنا يلفت النظر التداخل الروسي من بعيد، عندما أصدر الروسي فلاديمير بوتين، القرار المثير للجدل والمفاجئ، بخروج القوات الروسية من سورية، وكان الاستغراب هو أن بوتين حليف رئيسي للأسد، ومن الصعب أن يتركه في وضع كهذا إلا إذا كان وراء الكواليس ما لا نعلمه.

وحتى نفصل في الأمر، يتبين أن قرار الانسحاب الروسي من سورية ليس دقيقا، فلا تزال وحدات الصواريخ "إس 400" موجودة وليست قيد الانسحاب، والتواجد في القواعد لم يطرأ عليه تغيير، بل وإعلان القيادة الروسية أنها لا تزال تقصف ما أسمتهم بالإرهابيين، وهنا لا تقصد "داعش"، بل تقصد "الجيش الحر" وغيره من الفصائل التي تحارب وتقاوم الآلة الدموية لنظام الأسد، قد يبدو للوهلة الأولى أنه قرار للمساومة وكسب نقاط سياسية، الانسحاب فقط لوحدات محدودة، صورة الانسحاب الروسي لم تتضح حتى الآن، وواضح أن عامل المفاجأة هو الأبرز فيه، ولا نعلم ما ستخفيه الأيام القادمة ولم تتبين حيثياته على الأرض حتى الآن.

لاحظت أيضاً أن ردود الفعل الدولية إزاء القرار الروسي هي ما بين استيعاب مفاجأة القرار، والترحيب الحذر، وفي الحقيقة لا أعتقد أنه توجد خلافات بين روسيا ونظام الأسد، ولا حتى مع إيران، فالمصالح المشتركة تفرض التوافق، والأسد لن يفرط بسهولة في ورقة روسيا، وربما نكتشف في المستقبل القريب أن القرار الروسي، مجرد بند في مفاوضات جنيف، لكسب نقطة هنا، ونقطة هناك، لأن التوقيت مع بدء لقاءات جنيف، يحمل عدة علامات استفهام.

وبغض النظر عن أية تطورات، نتمنى أن تكون إيجابية، لا بد من حل حقيقي في سورية، سياسياً كان أو عسكرياً، فالوضع لم يعد يحتمل أي تأخير، لأن ما يحدث مأساة وكارثة إنسانية، وأتمنى على الوفد المعارض أن يقرأ جيداً التاريخ، وبخاصة السيرة النبوية، وما جرى في صلح الحديبية، فالتاريخ دروس وعبر، وتفاعل بين الإنسان والزمان والمكان، والسياسي الناجح هو من يرى المصلحة العامة ويقدمها، ويتعامل وفق رؤية واسعة تحتاط لكل الاحتمالات في سبيل إيجاد أفضل صيغة تسمح لأوضاع أفضل، فالبلد يتهاوى، وسورية تسجل أكبر عدد لاجئين في التاريخ، والتدخلات لم تترك مكاناً إلا لوثته، فإن لم يكن المفاوض سورياً حقيقياً، فلن يُحدث تقدماً، لأن من يسير وفق مصالح الدول الأخرى لن ينتهي.