د. يعقوب الكندري: القبيلة أصل الديمقراطية في الكويت (2-3)
من النتائج التي رصدها الباحث د. يعقوب الكندري بعد قيامه بفرز أوراق الاستبيان الـ3437 ودراستها كما ذكرنا، تبين له، كما يذكر في الدراسة، "أن المنحدرين من الجذور القبلية يؤيدون، بصورة أكبر، دور المؤسسة الأمنية في المجتمع، في تعزيز قيم المواطنة، مقارنة بالمنحدرين من الجذور الحضرية".فمثلاً، عبارات من قبيل "تطبيق القانون على الجميع" من قبل المؤسسة الأمنية، وأنها "تحقق العدالة بين المواطنين" واعتبار "رجل الشرطة مثالاً يُحتذى به"، تَبَيَّن من الدراسة "أن أفراد العينة المنحدرين من الجذور الحضرية سجلوا معدلات أعلى من أفراد العينة المنحدرين من الجذور القبلية في درجات معارضة العبارات... فجاء رد أفراد العينة ذوي الجذور القبلية أكثر موافقة"، وكان الموقف مماثلاً في موقع المجموعتين من المؤسسات الدينية ومن عبارات مثل "تعزز أجهزة الوزارة- أي الأوقاف- العمل التطوعي"، و"تعزز خطبة الجمعة مفاهيم الوحدة الوطنية،" و"تؤكد الوزارة في ندواتها ومؤتمراتها مفهوم المواطنة"... إلخ. وقد لوحظ أن أفراد العينة من ذوى الأصول الحضرية "سجلوا درجة أعلى في معارضة جميع العبارات الواردة في هذا المقياس"، بعكس ذوي الأصول القبلية الذين كانوا أقل معارضة.
وبينت آراء الحضريين عدم موافقتهم على الدور الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز قيم المواطنة، فيما عبر المنتمون الى جذور قبلية عن رضا وقبول أوضح، وكان من بين الأسئلة: هل تساهم هذه المؤسسات في الحد من الصراع والخلاف بين فئات المجتمع؟ هل تشارك بإيجابية في المناسبات الوطنية؟ هل تشجع العمل التطوعي؟ هل تمثل جميع أطياف المجتمع الكويتي؟... إلخ.وبخصوص النقاط العشر المتعلقة بدور مجلس الأمة، ومنها دوره في "إثارة التفرقة" وأن النائب "يتفانى في تحقيق مصلحة الوطن"، وعبارة "تُعبّر الآراء التي يطرحها النواب عن إرادة الشعب"، يقول د. الكندري "سجّل أفراد العينة المنحدرون من جذور حضرية معدلات أعلى في المعارضة، أي عدم الموافقة على العبارة- من أفراد العينة المنحدرين من الجذور القبلية في جميع العبارات الواردة، عدا العبارة التي تتعلق بـ"زيادة نظام الدوائر الانتخابية الحالي". وبينت الدراسة، كما حللها د. الكندري، "أن المنحدرين من الجذور القبلية ينظرون بإيجابية أكبر إلى المفاهيم المتعلقة بالقيم الاجتماعية السياسية والاتجاهات السياسية نحو المشاركة والديمقراطية داخل المجتمع، مقارنة بالمنحدرين من الجذور الحضرية".ولاحظ الباحث وجود فروق ذات دلالة إحصائية لبعض البنود بالاتجاه الإيجابي لمصلحة الأكبر سناً مقارنة بالفئة العمرية الأصغر، إذ "سجل أفراد العينة المنحدرون من جذور قبلية والفئة العمرية الصغيرة معدلات أعلى في المعارضة، من أفراد العينة من الفئة العمرية الكبيرة السن".ويبدأ د. الكندري تحليله الختامي للدراسة بالقول: "أشارت نتائج الدراسة إلى وجود فروق دالة إحصائياً بين الشرائح الاجتماعية الحضرية والقبلية في المجتمع الكويتي، وبينت أن فروقاً ذات دلالة إحصائية بين المنحدرين من الجذور الحضرية والمنحدرين من الجذور القبلية في المتوسطات الحسابية لجميع المتغيرات التابعة التي اختُبرت والمتمثلة باتجاهات أفراد العينة نحو المؤسسات الاجتماعية والمتمثلة بالمؤسسة الأمنية والمؤسسة الدينية والمؤسسة التشريعية ومؤسسات المجتمع المدني، ودور هذه المؤسسات في تعزيز قيم المواطنة ومفاهيمها بالاتجاه الإيجابي للمنحدرين من الجذور القبلية". ويقارن د. الكندري نتائج دراسته بما توصل إليه باحث يمني عام 2008 عندما قارن بين الجذور الحضرية والجذور الريفية في العوامل المتعلقة بالجوانب الدينية المؤثرة في وعي الطلاب في مدينة عمران اليمنية، ووجد أن "أهل الريف أكثر وعياً وممارسة للجوانب الدينية المؤثرة في قيم المواطنة، مقارنة بأهل المدينة"، وقد اهتمت بعض الدراسات الأميركية الاجتماعية بما للاختلافات الثقافية للعرقيات المختلفة داخل المجتمع الأميركي من أثر في قيم الديمقراطية.ويرى الباحث د. الكندري أن المفاهيم الدستورية الكويتية في الأبواب الخاصة بالدولة ونظام الحكم والمقومات الأساسية للمجتمع الكويتي "تتوافق بشكل كبير مع المفاهيم القبلية". "فتشير المادة السادسة منه مثلا إلى أن السيادة للأمة، وهو مفهوم متوافق تماماً مع الحياة القبلية، وأن السيادة للأفراد في القبيلة، وفق نظام حكم يساوي بين الجميع، ويجعل فيه السيادة لأبناء القبيلة وفقا لهذا النظام، وتنص المادة السابعة أيضاً، على سبيل المثال في باب المقومات الأساسية للمجتمع الكويت، على أن "العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع، والتعاون والتراحم صلة وثقي بين المواطنين"، وغيرها من المواد التي تعتبر مستمدة بشكل كبير من التراث المحلي ومن الثوابت الرئيسة في الكيان الاجتماعي المتمثل في القبيلة، ولعل ذلك ما يفسر لنا أن أغلبية المناطق القبلية الموجودة في الكويت يكثر فيها عدد المرشحين، وكذلك عدد الناخبين الذين يدلون بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية بالإضافة الى عامل آخر يرتبط بضرورة تأييد ابن القبيلة ومساندته في دخوله المجلس النيابي الذي يشرع القوانين ويعدها، حتى يضمن للقبيلة ولهذا الكيان الاجتماعي في المجتمع الحديث مبدأ المساواة مع الآخرين ومع الفئات والشرائح الحضرية، ومشاركتهم في تقرير المصير كأحد أبرز المفاهيم السياسية في حياة المجتمع التقليدي".ويضيف الباحث: "وهذا ما يفسر أيضاً قيام كثير من شيوخ القبائل في بداية العهد الديمقراطي في الكويت بالانخراط في الانتخابات البرلمانية وتصدر قوائمها وقائمة الفائزين فيها بدعم من أفراد القبيلة، مع بعض التغيرات التي طرأت لاحقا، ووجود عوامل أخرى ارتبطت بالتحديث، وأعطت عوامل أخرى مهمة، بالإضافة الى البعد القبلي، كما أشار إلى ذلك خلدون النقيب، بقوله إن التدين والفكر والأيديولوجيا جاءت داعمة للقبيلة ولأفرادها في المجالس النيابية". ويقول د. الكندري إن الحياة القبلية ارتبطت بشكل كبير بالمفاهيم السياسية، من طاعة وولاء للقبيلة، وصدور قرارات من الأعلى للأدنى، وأهمية مجلس القبيلة وعلاقات الحياة الاجتماعية مرتبطة كلها بالمقومات السياسية، "فمبدأ المشاركة والديمقراطية مستمد من مبدأ الشورى لسيد القبيلة الذي لديه مجلس، فلا ينفرد بالحكم، خلافاً لحياة الحاضرة في المجتمع المستقر، فهي لا تربط أفراد المجتمع بالجوانب السياسية، ولا وجود لاستبداد في الرأي وللسلطة المنفردة، فهو بالتالي أعرق من حياة المدينة والمجتمع المستقر استخداماً للمفاهيم الديمقراطية، فلم تعرف حياة الحاضرة والاستقرار في المجتمع المحلي عند نشأته الحياة السياسية المتكاملة إلا بعد هجرة قبلية إليه، ونقل مفاهيم وتصورات التنظيم القبلي في العمل السياسي وتعزيزه".وقد تأسست الكويت اعتمادا على تصورات التنظيم القبلي، يقول د. الكندري مستشهداً بما يقوله المؤرخ حسين خزعل وعبدالعزيز الرشيد وأحمد أبو حاكمة، ويضيف: "جرى مع بداية تكوين المجتمع والدولة اختيار صباح بن جابر ليكون حاكماً عليهم ويتولى رئاسة وشؤون الحكم بنظام الشورى، مع تولي بقية العائلات الأعمال المالية والتجارة وأعمال البحر، فأصبح كيان الدولة قائماً بعد هجرة العتوب، ذلك النظام القبلي الذي أرسى قواعده السياسية على قواعد الدولة الحديثة، بعدما أن كان المفهوم والتنظيم السياسيان غائبين، إذ كان المجتمع المحلي عبارة عن جماعات سكانية شبه مستقرة على الساحل، وغير خاضعة لسلطة سياسية واضحة إلا بعد هجرة القبيلة بمفاهيمها إلى منطقة الاستقرار، ناقلة المفاهيم السياسية الموجودة في الكيان الاجتماعي القبلي إلى الدولة الحديثة، وجاءت الشورى واتخاذ القرار وتوزيع المهمات والسلطات وتكوين المجالس، وغيرها من مقومات الحياة السياسية وفقا للنظم العشائرية السائدة، ومع وجود العشائر والقبائل التي بدأت تستقر في الكويت، فجاء الاختيار الهرمي الأعلى من مجموعة من القبائل والعوائل التي كانت تسكن المنطقة، فترسخت عند أهل البادية العملية السياسية التقليدية بمفاهيمها".وبهذا، يلغي د. يعقوب الكندري في بحثه هذا، العديد من التصورات السائدة في الثقافة الكويتية النخبوية والشعبية، من "أن القبائل أداة لقمع الديمقراطية"، و"أنهم حلفاء للشورى ضد الديمقراطية"، و"أن القيم الدستورية وليدة ثقافة النخبة الحضرية المتأثرة بدورها بحركة الإصلاح العربية في مصر وبلاد الشام والعراق".وهو استنتاج، إن كان صحيحاً، سيولد الكثير من الجدل الصاخب والاعتراض من غير الموافقين عليه، وربما يشجع على البحث في جذور الدولة والسلطة والقيم الدستورية في الكويت!