من يتابع الحسابات المتخصصة في التاريخ عموما وتاريخ الكويت تحديداً يراوده شعور بوجود هالة من التعظيم حول الأشخاص والأحداث وطهر التاريخ المحلي، فبلا شك إن تتبع العيوب ونشرها بقصد النشر هو من صفات الخسة والدناءة، بالنسبة إلي على الأقل، لكن أيضا نشر وتهويل الأحداث وإسباغ صفة المكارم على من لا يستحق هي من صفات الكذابين المدلسين.

Ad

ففي تاريخنا المحلي انتشرت كتب للمدح وكان أبرزها كتاب عبدالمسيح الأنطاكي "الآيات الصباح في مدح مبارك الصباح"، والذي حذر الشيخ يوسف بن عيسى في كتابه "الملتقطات" ابن الشيخ مبارك ناصر من نشر الأكاذيب التي يحويها، بقوله "انصحْ والدك في إخفاء هذا الكتاب لأنه مهازل وأكاذيب". (ص ٣٥٤، الطبعة، الثانية ١٩٩٨).

وأول من يلام على ظهور هذه القداسة على تاريخنا المحلي هم الأكاديميون المتخصصون في التاريخ، إذ إن بعضهم لاعتبارات قانونية يخافون من الخوض في الخطوط الحمراء التي فرضها مسؤول لا يتقن حتى أبجديات التاريخ، وهناك قسم آخر من المؤرخين المحليين يراعون الأعراف الاجتماعية على حساب الحقائق التاريخية، ولذلك يشير في الهوامش على استحياء ما يمنعه العرف الاجتماعي من ذكره. وآخرون انخرطوا في دوائر طائفية أو طبقية ضيقة فصارت ألقابهم بأسماء الضواري كأسد وذئب وطير شلوى!

القسم الثاني الذي تقع عليه الملامة هم جامعو التحف والمطبوعات القديمة الذين حفظوا بجهدهم وأموالهم الشيء الكثير من تراثنا التاريخي، وهذا أمر يشكرون عليه بلا شك في ظل غياب مؤسسات حكومية شغلها الشاغل جمع هذه النوادر وتوفيرها للباحثين. بل أجد أن جهد من يجمع الأنتيك والطبعات الأولى جهد مقدر، إذ إنهم يفتحون في الغالب أبواب مكتباتهم للباحثين عندما توصدها بعض المؤسسات الحكومية. ما يعيب هذه المجموعة هو عدم فهمهم في أحيان كثيرة للسياق التاريخي للوثيقة التي يجدونها في أرشفيهم، فينشرونها ويبدؤون بالتحليل وربط الأحداث ليصلوا إلى نتيجة قد تكون منطقية بالنسبة إليهم، لكن بالنسبة إلى المتخصص تكون كارثية. هذا القسم أيضا يتحمل مسؤولية أخرى تتمثل بإخفاء بعض الوثائق أو الكتب النادرة التي تتعلق بالتاريخ المحلي بسبب مخاوف شخصية أو اعتبارات فردية يعتقد مالك الوثيقة أو الكتاب أنه من الأفضل عدم خروجها، ومن الكلمات التي أسمعها دائما عندما أحاول الحصول على مثل هذه الوثائق "الناس اللي فيها عند ربهم وهو كفيل بمحاسبتهم".

القسم الثالث الذي يدمر الفهم التاريخي المحلي هو القسم المتعالم، وما أكثره في "تويتر" تحديدا، وما يميزهم عن غيرهم أن حدود معرفتهم تكمن بحدود الكتاب الذي يقرؤون وينقلون منه لمتابعيهم في "تويتر"، وهؤلاء في الغالب يبحثون عن الإثارة، فتجدهم يختارون مواضيع للرتويت أكثر من اختيارهم للمادة، وبعضهم ينتقي انتقاء ما يشعل الفخر القبلي أو المناطقي والطائفي، وآخرون يفعلون العكس من خلال محاولة الانتقاص من الآخر الذي لا يعجبهم. هذا النوع وأقولها بكل أسف يسمع له الآلاف، فهو يعتمد بالإضافة إلى الانتقائية التاريخية على العلاقات الفردية مع مشاهير آخرين يدافعون عنه، وهو بذلك يضع حول نفسه هالة لتخويف من يحاول انتقاده بشكل مباشر.

القدسية عندما تضاف إلى أي شيء في الحياة في الغالب تدمره، ولذلك علينا أن نحاول رؤية الأحداث بعين العقل لا العاطفة، فما المانع أن يكون جدك الذي تفخر به ارتكب خطأ أو قبيلتك هزمت في معركة ما، وربما طائفتك ارتكبت فعلا غير مبرر في تاريخنا المحلي. الأصل أننا بشر نصيب ونخطئ ووجود تاريخ المديح الذي ليس فيه عيوب أو أخطاء هو بحد ذاته خطأ على المتخصصين والمؤرخين تداركه اليوم، قبل أن يضيع ما تبقى منه. هذا المقال دعوة لنفسي وللفئات الثلاث التي ذكرتها أن يخافوا الله في تاريخنا، فالمؤرخ، كما قيل، قاض، وأنا لا أدعو أبدا للنقد فقط بل أدعو للكتابة بالعقل دون العاطفة.

شوارد:

يقول ابن خلدون في مقدمته:

"إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق".