بات مصطلح التسريبات أحد أهم المصطلحات التي تفتح شهية رجال الصحافة والإعلام، وتجتذب اهتمام الجمهور، لما تحمله من عناصر التشويق والإثارة من جانب، وبما تنطوي عليه من معلومات وأسرار من جانب آخر. في الأسبوع الماضي، لم يكن هناك حديث في العالم أهم من الحديث عن "وثائق بنما"، والتداعيات التي ترتبت على نشر بعضها، وما يمكن أن يحدث من جراء نشرها في أكثر من بلد.

Ad

ورغم الأهمية الكبيرة التي انطوت عليها تسريبات "ويكيليكس" سابقاً، فإن "وثائق بنما" تبدو في وضع أفضل، لأنها لا تكشف عن انطباعات أو مراسلات أو أقوال تم تداولها بين مسؤولين ودبلوماسيين، لكنها تكشف عن وقائع فساد مباشرة، يمكن أن تقود بعض الكبار في العالم إلى السجن، أو تأخذهم إلى زوايا النسيان، ليمضوا بقية أيامهم ملطخين بالعار.

سينضم المدعو "جون دو"، المنسوب إليه تسريب وثائق بنما إلى قائمة المسربين الكبار إذاً؛ وهي قائمة تضم أسماء عمالقة من نوع "جوليان آسانج" صاحب موقع "ويكيليكس"، و"إدوارد سنودن" عميل أجهزة الأمن القومي الأميركية، الذي انشق عن بلاده، وكشف قيامها بالتنصت على المواطنين وبعض الزعماء الأجانب.

فمن هو "جون دو"؟

يؤكد "باستيان أوبرماير"، الصحافي الذي يعمل بصحيفة "زودويتشة تسايتونغ" الألمانية، أن شخصاً يطلق على نفسه اسم "جون دو" اتصل به عارضاً عليه إعطاءه معلومات غاية في الأهمية بغرض نشرها.

يقول "أوبرماير"، لصحيفة "واشنطن بوست"، كنت في مناوبة عمل في الصحيفة، حين وردني اتصال من شخص مجهول، باغتني بالقول: "ألو... أنا جون دو... هل تريدون معلومات؟".

يعرف "أوبرماير" أننا جميعاً نعرف الإجابة؛ فليس هناك صحافي على وجه الأرض سيرفض عرضاً مثل هذا... الحصول على معلومات.

في حال كانت رواية "أوبرماير" صحيحة، فقد بادر شخص ما بالاتصال بالصحيفة عارضاً تقديم 11.5 مليون وثيقة، من الوثائق المحفوظة في أرشيف معلومات شركة المحاماة البنمية "موساك فونسيكا"، وهي وثائق تكشف وقائع فساد وشبهات تتعلق بآلاف من أهم السياسيين ورجال المال والأعمال في عدد كبير من دول العالم.

بحسب "أوبرماير"، وصحيفته، فقد تم بناء علاقة مع المُسرب "جون دو"، وعبر اتصالات طويلة، جرت من خلال وسائل تشفير وتقنيات حماية، تم نقل الوثائق لتصبح بحوزة الصحيفة الألمانية.

يقول "أوبرماير" إن النهوض بعبء فحص الوثائق وفرزها وتصنيفها وتدقيقها، فضلاً عن نشرها، عمل ضخم ومكلف، إذ يكفي أن نعرف أن تلك الوثائق في حال نشرها يمكن أن تصدر في 38 ألف كتاب من القطع المتوسط. ولذلك، فإن الصحيفة لجأت إلى فكرة "الاتحاد قوة"، وذهبت إلى الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، الذي يقع مقره في الولايات المتحدة، وتموله جهات ومنظمات أميركية.

أراد "الاتحاد" أن يجعل من قضية "أوراق بنما" عملاً منهجياً متكاملاً، كما قالت نائبة المدير مارينا جيفارا، ولذلك، فقد تمت مشاركة المعلومات مع 370 صحافياً من أعضاء الاتحاد، ينتمون إلى نحو 100 مؤسسة إعلامية.

إن تلك المنهجية تطلبت وقتاً وجهداً وإجراءات أمن وحماية بالغة الدقة، لكنها في الوقت ذاته، مكّنت "الاتحاد" من تحقيق جملة من الأهداف؛ أولها يتصل بالموثوقية الناجمة عن تدقيق الوثائق، وثانيها يتعلق بحماية الناشرين، لأن عددهم أكبر من أن يسمح باستهدافهم، وثالثها يتصل بسعة الانتشار، حيث ستقوم كل مؤسسة بدورها في محيطها المحلي، بما يضمن انشاراً كبيراً للمعلومات، ورابعها يتعلق بدرجة الوجاهة والأهمية التي سيكتسبها العمل، مما يعزز الضغوط على الحكومات، لدفعها إلى اتخاذ إجراءات وفتح محاكمات.

سيقول المشككون: قف هنا. هذه واشنطن. هذا الاتحاد من يموله؟ لماذا ورد اسم بوتين والأسد، ولم يرد اسم أحد من المقربين من الإدارة الأميركية؟ هل تصدق قصة "جون دو"... أليست مهزلة أن نصدق أن أحداً يتصل بصحيفة عارضاً معلومات غاية في السرية، لأنه يريد أن يخدم الحقيقة ويكشف المجرمين؟ وسيزيد النقاد: وما الجديد؟ نحن نعرف أن هؤلاء الرجال أثرياء. إنهم يلجؤون إلى مثل تلك الشركات لأنها تعمل باحتراف، ولأن بنما من الدول التي تعطي تسهيلات قياسية في مجالات الاستثمار والأعمال، وإن ورود اسم شخص ما ضمن وثائق بنما ليس دليلاً مؤكداً على أنه مجرم أو متهم، كما أن عدم ورود أسماء الآخرين في تلك الوثائق لا يعني أنهم أبرياء، فثمة عدد كبير من الشركات المماثلة التي تنشط في أنحاء مختلفة من العالم، بعضها نعرفه، وبعضها لا نعرف عنه شيئاً.

إن هذه الحجج منطقية بكل تأكيد، لكننا الآن أمام موقف محدد بمعطيات واضحة، وعلينا أن نحلل الوضع بشكل مجرد، وأن نتصرف على نحو عادل؛ كما يلي:

أولاً: لا يمكننا أن نعرف الأهداف الحقيقية للمُسربين طالما أنهم لم يعترفوا بها، لكننا نعرف مبدئياً أن لديهم أهدافاً، قد لا تكون بالضرورة في خدمة الحقيقة والإنسانية.

ثانياً: يجب ألا نتوقف عن الاهتمام بوثائق المُسربين لأننا لا نعرف أهدافهم، وعلى من يريد أن يشكك أن ينقد الوثائق نفسها، لا مُسربيها، أو الصحافيين الذين أذاعوها، أو الطريقة التي وصلتنا بها.

ثالثاً: عدم شمول الوثائق لكل الجرائم، وعدم إذاعة كل الأسماء المُتضمنة فيها، ليسا ذريعة للتوقف عن الاهتمام بها.

رابعاً: المُسرب لديه مصلحة لا نعرفها، ونحن لدينا مصلحة نعرفها؛ وهي: الحقيقة، وسيادة القانون، ومعاقبة المخطئين.

خامساً: على من يشكو من انتقائية التسريبات أن يسد عوارها بالبحث عن وثائق تدين المجرمين المختبئين، لا عبر التشكيك في أهمية ما يذاع.

سادساً: يسجل المتورطون شركات وهمية أو شركات سرية لأسباب عدة؛ منها التهرب الضريبي، والفساد، وغسل الأموال، والحصول على عطاءات من دون الإعلان عن هويتهم، والأهم من كل ذلك لإخفاء أموال لا يمتلكون إجابة عن السؤال عن مصدرها.

سابعاً: لقد سقط رئيس وزراء إيسلندا بسبب الوثائق، وهو الأمر الذي سيحدث في أي دولة تعرف سيادة القانون، لكن في دول أخرى، لن يحدث شيء باستثناء نشر بعض الموضوعات الصحافية والمقالات.

* كاتب مصري