الروائي يان مارتل: الأزمنة تختفي ما لم تتناولها القصص

نشر في 28-03-2016 | 00:00
آخر تحديث 28-03-2016 | 00:00
No Image Caption
• أصدر روايته «جبال البرتغال المرتفعة»
يعود يان مارتل، كاتب رواية Life of Pi (حياة باي) التي حققت مبيعات قياسية، لطرح رواية مشوقة أخرى بعنوان The High Mountains of Portugal (جبال البرتغال المرتفعة). يستبدل مارتل بالحقائق الرموز والمجاز والتلميحات الغامضة، ويخترع في هذه الرواية قصة عابرة للقارات والأجيال. يروي الكاتب حكاية مليئة بالحزن والإيمان عبر ثلاث قصص منفصلة بأساليب مختلفة: رحلة بحث عن كنز في أنحاء البرتغال في عام 1900، وقصة واقعية وساحرة عن اختصاصي في علم الأمراض يشرّح الجثث في منتصف الليل، وأخيراً حكاية معاصرة عن سياسي كندي.

يضع مارتل بصمته في رواية The High Mountains of Portugal ويعكس عمق أفكاره. تحدّث الكاتب إلى هيذر سكوت بارتينغتون أخيراً عن الحزن، والرمزية في القصص، ومصادر الإلهام في أحدث أعماله.

في رواية The High Mountains of Portugal، تلفتنا عادة توماس وشخصيات أخرى بالسير نحو الخلف بعد وفاة شخص عزيز. كتبتَ أن هذه الحركة تشير إلى اعتراض شخصي من توماس على الخالق وأنها أصبحت لاحقاً عادة شائعة بين القرويين في تويزيلو. هل تظنّ أن الحزن شعور شخصي جداً أم ثمة قيمة للتقاليد التي تربطنا بتجاربنا الحزينة؟

الحزن تجربة فردية على نحو مريع. يمكن أن ينهار الشخص بسبب حدث بالكاد يلحظه الآخرون في الصحيفة أو يتأثرون به. نحمي نفسنا من الألم ونجيد تجاوز المواقف الصعبة عند التعامل مع ألم الآخرين: إنها آلية دفاعية طبيعية. لكن سرعان ما يخترقنا الألم كحربة، ثم يختلّ توازننا ولا يمكننا تخيّل ما سيحصل. لذا يحمل أي تقليد قادر على تخفيف الحزن قيمة كبرى، مع أنني أظن أنه غير كافٍ.

لا يمكن أن تنجح أي حيلة في جعل الألم يختفي بالكامل. لكن يكون الزمن طبعاً كفيلاً بتحسين الوضع مع أنه يستنزف طاقتنا أيضاً. ينجح الزمن في طمس جميع مشاعر الألم والحزن، لكنه يضع حداً للحياة أيضاً.

أظن أن الحزن يمكن أن يتلاشى عبر نظام من القناعات التي تضعه في سياق أوسع وتعطيه معنىً محدداً. لذا يمشي توماس نحو الخلف كردّ فعل قوي بقدر الحزن الذي يضطر إلى تحمّله.

الرمزية ونجاح القصة

في الجزء الثاني من رواية The High Mountains، يصغي أوزيبيو إلى زوجته وهي تدافع عن أهمية الحكاية الرمزية فتقول: “الحكاية الرمزية أسلوب مجازي على شكل قصة بسيطة. إنها أشبه بحقيبة يجب فتحها لرؤية محتوياتها. لكنّ المفتاح الوحيد الذي يفتح هذه الحقائب ويكشف عن محتواها هو المجاز”. يتساءل أوزيبيو: “ما الذي يجعل الحقيقة تستعمل أدوات الخيال؟ لماذا يسرد الكاتب القصص ويسمح لنفسه بأن يكون جزءاً منها في آن؟ تعجّ القصص باستعارات يخترعها كتّاب يتلاعبون باللغة وكأنهم يعزفون على آلة الماندولين للترفيه عنا”. خلال الكتابة، إلى أي حد تعرف مدى تجاوب القراء المعاصرين مع المجاز؟ وما أهمية هذا العامل؟

من ناحية معينة، ترتكز الأعمال الأدبية كافة على مستوى رمزي لأن اللغة بحد ذاتها رمزية. بالنسبة إلى المجاز الصرف، لا أعرف أذواق الناس اليوم لكني أظنّ أن القراء يكونون منفتحين دوماً على كل ما يؤثر بهم ويجعلهم يفكرون، وهذا ما يقوم به المجاز أو أي أسلوب آخر. شخصياً، أحب المجاز. أعتبر روايةThe Divine Comedy (الكوميديا الإلهية) أحد الأعمال الأدبية المفضلة لدي. بالنسبة إلي، يكون المجاز نقيضاً للأسلوب الحرفي. من يحب هذا الأسلوب أصلاً؟

ما هي عناصر نجاح القصة المجازية؟ أعتقد أن الناس يتقبّلون المجاز أكثر مما يظنون. يمكن أن أفكر بأمثلة في مجالات الموسيقى والفن والسياسة وحتى الدعابات المتداولة. لكن عند تصنيف القصة كعمل مجازي، أظنّ أن القراء يخشون ألا يتمكنوا من فهم المغزى أو أن يعطوا تفسيرات خاطئة. هل يجب أن تكون الحكاية الرمزية بسيطة كي تحافظ على طبيعتها؟ وهل تفكّر باستعمال الحكايات الرمزية والمجاز لزيادة تعقيد الأدب أو جعله قابلاً للتفسير بطرق مختلفة بدل إعطائه معنىً مبسّطاً؟

تبدأ الحكاية الرمزية أو المجاز بإعطاء مفعولهما حين ينغمس القارئ في القصة ويوافق على مواكبة حوادثها. لا يعني ذلك أن العملية سهلة. تبدو الحكايات الرمزية بسيطة ظاهرياً لكنها تحتوي على مجموعة كاملة من المعاني. تشتق هذه الحكايات من التقاليد الشفهية في معظمها ويجب أن تنقل عدداً من المعاني الغنية في عبارات قليلة. قد تكون مختصرة لكنها ليست بسيطة وتتطلّب درجة من المعارف المسبقة لفك ألغازها. لا يمكن فهم روايةDivine Comedy لدانتي ما لم نكن مطّلعين على التاريخ الإيطالي والكاثوليكية: من حظ القراء أنها تحمل هذا الكم من الحواشي والتفسيرات. في العالم المعاصر الذي يتخلى عن الشرائع ويحتفل بمبادئ التعددية والتنوع، يحمل المجاز والحكايات الرمزية مخاطر إضافية. لكن من لا يحب الألغاز ومن لا يحب تشغيل عقله؟

تفرض قصصك أن يكون القراء منفتحين على حبكات منطقية كثيرة. لكن في الوقت نفسه، تطرحThe High Mountains of Portugal نقاطاً مترابطة داخل القصة تضمن أن نبقى في العالم نفسه رغم التنقل بين مختلف مراحل القصة. ما أهمية أن تقيم توازناً بين المجهول والمعروف في قصتك؟

ذلك التوازن أساسي ويشمل تكهنات كثيرة. يجب ألا يبالغ الكاتب في تقديم التفسيرات لأنه سيكشف بذلك عن جميع التفاصيل فيخسر القارئ اهتمامه بالقصة. ولا يجب أن تكون التفسيرات ضئيلة كي لا يرتبك القارئ.

تنجح القصة حين تجعل القارئ جزءاً منها، فيبدأ بقراءة الكلمات وبناء حكاية في مخيّلته. في هذا السياق، يمكن القول إن الكتاب يكتمل حين يسكب القارئ من نفسه فيه. ولا يبدأ دور القارئ إلا إذا اتّسم النص بدرجة من الغموض.

 

إلى أي درجة تظن أن نية الكاتب تحدّد طريقة تفسير العمل؟

تطرّقتُ لهذا الموضوع في السؤال السابق. يمكن أن تؤثر نية الكاتب سريعاً على رد فعل القارئ. ويمكن أن يرصد الأخير جانباً لم يقصده الكاتب بأي شكل، ما يعني نشوء روايتَين: الرواية التي أراد الكاتب سردها، والرواية التي اخترعها قارئ معين في مخيّلته. تستمر هذه العملية إلى أن يتساوى عدد الروايات والقراء. هذه القدرة على جعل كتاب واحد أشبه بمكتبة كاملة من شأنها تعزيز خصوبة الخيال بطريقة مدهشة تجذب الناس إلى الكتب لأنهم قد ينغمسون في النص ويشاركون في ابتكاره.

يجب ألا ننسى نية الكاتب بالكامل عبر طرح تفسيرات متعددة، لكن في الوقت نفسه يجب ألا يضطر القارئ إلى المرور بتلك النية وكأنها بوابة خاضعة لرقابة مشددة. ولا ننسى تأثير معرفة الكاتب بنيّته كلها. ثمة شكل من العفوية والحرية في الابتكار الفني، لذا يصعب أن يحصره الكاتب أو القارئ بِنيّة محددة.

المطالعة وأهمية الكاتب

في ما يخصّ حرفة الكتابة بحد ذاتها، ما هي الأعمال الأدبية التي اقتديتَ بها؟

ثمة كتب كثيرة، معظمها إنكليزية وأميركية من أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من بينها أعمال لكتّاب بيض راحلين (وعدد من الكاتِبات البيضاوات الراحلات مثل فرجينيا وولف وويلا كاثر وزورا نيل هيرستون، مع أنها ليست بيضاء، وقد قدّمن كتباً مميزة). فوجئت ببعض الكتّاب اليابانيين (ميشيما، كاواباتا) والروس (تولستوي، دوستويفسكي، غوغول، تورجينيف...). تأثرتُ أيضاً بالكاتب النروجي كنوت همسون الحائز جائزة نوبل في بداية القرن العشرين. ينطبق الأمر نفسه على رواية Divine Comedy التي ذكرتُها سابقاً وأعتبرها أكثر قصة أبهرتني على الإطلاق.

الكاتب الحي المفضل لدي هو جون كوتزي الذي يقدّم الكثير بمواد قليلة. عدد الكتّاب الذين تأثرتُ بهم هائل.

في عصر التغيّر المناخي العالمي والفقر والحروب والانهيارات الاقتصادية اليوم، هل يحافظ كاتب الروايات على أهميته، ولماذا؟

نعتبر عصرنا كارثياً أكثر من أي عصر آخر. لكن لنتخيل أننا نعيش في حي يهودي في أوروبا الشرقية في أواخر الثلاثينيات، أو خلال الحرب العالمية الأولى، وسط المجازر غير المسبوقة، أو في حقبة «الموت الأسود» التي شهدت وفاة ثلث الشعب الأوروبي، أو في أي بلدان واجهت الاستعمار.

نشعر دوماً بأن العالم سينتهي ويروي الشهود الحوادث في كل مرة. وإذا غاب الشهود، لا ينتهي العالم بل يختفي بكل بساطة. تختفي الأزمنة والأماكن من الوعي البشري ما لم تتناولها القصص. لذا أظنّ أن أهمية القصص ومخترعيها لا تزال قائمة.

ماذا تقرأ الآن؟

رواية كلاسيكية عظيمة لم أقرأها حتى الآن The Iliad (الإلياذة) بترجمة ستيفن ميتشيل. إنه نص عجيب وعنيف جداً لكنه مؤثر وأسلوبه السردي مشوّق. وتبدو فيه النظرة إلى الحياة، أي الفكرة القائلة إننا تحت رحمة الفرص العشوائية، معاصرة بشكلٍ مخيف.

back to top