حين أنهيت قراءة رواية ربعي المدهون "مصائر كونشرتو الهولوكوست والنكبة"، والتي أخذتني في ليلتين متتاليتين إلى أحضان فلسطين التي ربما لن أتمكن من زيارتها يوما، أقول ربما، وهي زيارة حميمية أحسن الكاتب سرد تفاصيلها، ونقلنا بأمانة تامة إلى الأمكنة المتخيلة بالنسبة لنا، وقدم لنا أيضا شخوصا فلسطينية تقليدية من واقعنا العربي الشرقي، شخوصا مقاومة وخائنة ومطبعة ومتصالحة مع الواقع، وأخرى غريبة زائرة تراقب الأمكنة والشخوص من منظور نوستالجي، ولكن دورها في الرواية لم يكن أكثر من سائح نعرف أنه سيغادر المكان من البوابة التي دخلها، فإن السؤال الذي لم يحيرني هو: "هل هذا النص رواية أم خليط بين التقرير الصحافي والروائي؟" النص يعتمد الكونشرتو الموسيقي بحركاته الأربع، وهو تناص ذكره الراوي وهو يستمع إلى موسيقى رودريغو الشهيرة.

Ad

ولكن فعليا هو تداخل نصين متباعدين؛ الأول للراوي وليد دهمان، وهو النص الذي نقرأه، والآخر نص جنين دهمان، النص الذي يقرأه لنا الراوي، وتختمه جنين نفسها في الحركة الرابعة.

ولكن القارئ لا يشعر بأن الكتابين لشخصين. فالرواية بدأت تأخذ الشكل الروائي المتحفز والخيالي الجميل في الحركة الأولى، ثم تتحول إلى تقرير صحافي يكتب بلغة صحافية لنقل تفاصيل ومشاهدات أغلبها خارج نسق النص الأصلي.

ورغم تعاطف القارئ العربي مع الأمكنة المستباحة وشعوره بالخيبة لضياعها وسطوة اليهود عليها، رغم محاولات النص ليكون متعادلا بين تسامح اليهود الشعب الذي بنى متحفا لضحاياه وآخر لقتلاه. فالشعور بالعداء يبدو خافتا تطغى الإنسانية بين جارين، فتحرق اليهودية منزل جارها الفلسطيني، ويتنازل عنها من أجل الجيرة.

ربما حاول الكاتب أن يكون متوازنا بعيدا عن التشجن الذي صاحب الصراع بين الشعبين طوال حياة الكاتب الذي ولد قبل النكبة بثلاث سنوات، وكان من ضحاياها الخارجين الى البلد الذي سبب النكبة.

إلا أنه ترك انطباع الناس حقيقيا في الصراع وتصرفهم تجاهه واقعيا لا يحتمل الخيال الروائي، وهي ميزة تحسب للنص. فالراوي الذي يبدي تعاطفا مع تاريخه المسلوب يعود الى بلاده بصحبة زوجة بريطانية لأبيها أرمنية/ فلسطينية لأمها تشاركه ذات النظرة الى الأمكنة.

الذي شوه النص وأفقده القدرة على التماسك الفني هو كثير من السطحية غير المبررة والتناص مع نصوص لم تكن ذات مغزى أو علاقة بالنص الأصلي، كتكرار قراءة جولي الزوجة البريطانية لرواية أهداف سويف "في عين الشمس"، وهي رواية صدرت عام 1992. ولم يكن مقنعا وجود الروائي ربعي المدهون في المطار والجريدة التي يكتب لها، والمقال الذي يكتبه فيها، وأكثر من خروج عن النص من دون مبرر حقيقي.

وإعادة بعض الأحداث وكأن الكاتب نسي أنه ذكرها في مكان ما من قبل، فلم يحافظ الكاتب على خط درامي، وركز كثيرا على نقل الأحداث بصورة رتيبة في محاولة لتوثيق كل ما يمكن توثيقه من قبة الصخرة الى ماعون الحمص، مرورا بأسماء مطاعم وباعة ومناضلين وأدباء وشعراء وعادات الناس ومواقفهم من المرأة ومسألة الشرف، وكانت كل تفصيلة تحتاج إلى رواية ناجحة، وكأنه وجد نفسه أمام مهمة تصوير بانورامي لفلسطيني الداخل والخارج في رواية لا تحتمل كل هذا.

الملاحظة الأخيرة هي سطوة الحوارات العامية الفلسطينية وانتقالها الى السرد، نقرأ مثلا "اتقلبت سحنتها صارت مثل صاج قديم مشحبر ساخن، اختفت ابتسامتها بجرة غضب وارتجفت كمن ركبه عفريت أزرق". وهو سرد لا يخلو من سطوة الحوار الفلسطيني العامي في النص. ومحاولة الكاتب استدرار النكتة في سرد حنيني كاستخدام كلمة "استبخت"، أي تورطت، في جمل فجة "استبخت والأجر على الله"، "استبخت واللي صار صار"، "استبخت ومحدش سمى عليك".