"معرض ديلاكروا في الناشيونال غاليري! هذه فرصةٌ لي لملاحقة حركة فرشاته".

Ad

  كنت أطمع بهذا، ما إن سمعت باسم الفنان الرومانتيكي الفرنسي يوجين ديلاكروا (1798- 1863). أذكر أني في منتصف التسعينيات شاهدث مسلسلاً تمثيلياً في الـ"بي بي سي" عن العلاقة التي لم تخلُ من لحظة خلاف ومُعترك بين الرسامين ديلاكروا ومجايله أنْغر (1780- 1867). الأخير كان يتعبد في محراب الجمال المثالي، ويُلاشي أيَّ أثر للفرشاة في لوحته، وديلاكروا كان يتوق إلى آخر قدرات التعبير عن الانفعال، والالتباس الداخليين لديه، ولذلك كان طليقاً مع فرشاته، شغوفاً بشعيراتها التي تعبر الكانفس كالريح. كان كالموسيقي بريليوز، والشاعر بايرون، قد عمّد روحه بمياه الرومانتيكية، التي دَفقَها بيتهوفن قبلهم بقرابة نصف قرن.

    إلا أن ديلاكروا كان منفرداً بميزة عزّت على الآخرين، كامنةٍ في تجاوزه حدودَ حاضره الفني والموسيقي والشعري إلى المستقبل، الذي ستحتله "الحداثة"، بدءاً بجيل الانطباعيين. ولذلك اقتصر هذا المعرض الجديد في المتحف الوطني على علاقة هذا الفنان "بنشأة الحداثة الفنية" في الغرب. على أن هذه الحداثة، في واقعها، اقتصرت على الفن الفرنسي في المرحلة الانطباعية: رَدون، مورو،  رينوار، سيزان، ﮔوﮔان، ماتيس، يُضاف إليهم الهولندي ﭬان ﮔوخ الذي استمد هذا التأثير خلال إقامته الفرنسية.

   ثمة مُفارقة، وأنت تتجول في قاعات المعرض الثماني، تلحظها بين العنف، والتوتر، والضجيج الذي يميز لوحة ديلاكروا وبين السكينة والهدوء في اللوحة الانطباعية المستوحاة منه، باستثناء ﭬان ﮔوخ طبعاً. على أن لوحات ديلاكروا لا تخلو من هذه السكينة، خاصة في أعماله التي رسمها في الجزائر. وبالرغم من حجوم لوحات ديلاكروا الصغيرة نسبياً، المنتخبة لهذا المعرض، إلا أني لم أفتقد لمسات شعيرات فرشاته العنيفة، الخاطفة، واضحةً. اللوحات الكبيرة الشهيرة له لم تُنقل من متحف اللوفر، بدافع الحرص، كلوحة "الحرية تقود الشعب"، ولوحة "موت ساردانابالوس"، (وهو اسم غريب لآخر ملوك آشور، لعله وليد مخيلة اليونان الأسطورية. والمقترح أنه آشوربانيبال.) هذه اللوحة الغرائبية تصور الملك الآشوري، وقد خسر آخر حروبه، مسترخياً قبل انتحاره، وسط مشهد غاية في اللاتوازن لنسائه، يُذبحن على يد حرسه. المعرض اكتفى بلوحة سكيتش صغيرة عملها الفنان لعمله الضخم هذا. وفيها تبدو طلاقة الفرشاة أبرز من لوحة اللوفر.

    هذه الحركة في الفرشاة هي التي أسرت الانطباعيين، خاصة حين تتأمل غياب الخط البياني الذي يحدد الكتل، وتماهي ألوان هذه الكتل بالخلفية التي تحيطها. الانطباعي الذي اعتمد انعكاسات الضوء في الطبيعة، وجد في الألوان وحدها ضالته، لا في محاكاتها ألوانَ الطبيعة، بل في الانطباع الذي تخلفه في مخيلة الرسام، ولذلك تعامل مع اللون كقيمة مستقلة. هذا ما تقع عليه في لوحة ديلاكروا.

    ولكن رؤى ديلاكروا الفنية لم تقتصر على النزوع الحداثي، فلديه إرث من فخامة الكلاسيكيين، خاصة في اللوحات المستوحاة من التاريخ. حيث عناصر العنف والرغائب الشهوانية عادة ما تتسم بروح بطولية. ويرى بعض النقاد أن ثورته الفنية تتعين في هذا الاحتفاء النشوان بما هو حسي، المتجسد في طريقة استخدام الزيت، واللون بصورة خاصة. مقارنة برسم الهيئات الشاحبة، الجامدة والمرسومة بدقة في اللوحة الكلاسيكية الفرنسية.

    تتوزع لوحات المعرض وفق مواضيع محددة، تحيطها لوحات المحدثين من الانطباعيين. تبدأ بلوحة البورتريه الشخصي المؤثرة، أيام شبابه، لأنها تنطوي على أكثر خصائص فنه تميزاً. ثم الغرفة التالية حيث لوحة "موت ساردانابالوس" تستضيف لوحة لسيزان عن المرأة المفقوءة العين. والغرفة المخصصة للوحات الجزائر تستضيف لوحاتٍ للرسام رينوار في مواضيع مشاهد العرس اليهودية، أو رقص الدروشة الإسلامي. والأخرى التي تنصرف لمشاهد الطبيعة نرى لوحة لـﭬان ﮔوخ، واللوحة التي تُعنى بالتوليف الفني الخالص، كلوحة خروج آدم وحواء الصغيرة الحجم، نرى لوحات لماتيس، ﮔوﮔان، وكاندنسكي...

   معرض كهذا يستحق أن يُرى أكثر من مرة، لا لاحتضانه لوحاتِ فنانين على قدر عالٍ من الأهمية فقط، بل لأنه ينطوي على درسٍ تفصيلي للتأثر والتأثير في الفن. فالمادة المكتوبة لكل غرفة، ولكل لوحة تضاهي اللوحةَ الفنية امتاعاً.