لنحطم ثقافة الظواهر
حياة الضياع التي هي صنو ثقافة الظواهر يستقر في جوفها الخواء والبلادة، وتعيد مرارا وتكرارا إنتاج الأقبح والأشنع، وتشهد في طورها المستفحل والعضال، عزوفا عن أروع قيم الإنسان المتمثلة بالتسامح والعطف والرحمة والحب والجمال.
دفعاً لأي لبس أو غموض، أعني بالظواهر السطحية والقشرية المناقضة للعميق والجوهري، فثقافة الظواهر لا تأبه بالتفكير والنقد وتخلو من القيم الإنسانية الجوهرية؛ فتمجد التافه والمبتذل والعادي، وليس مبالغة الترجيح أنها تزرع في الفضاء الاجتماعي السبات والترهل والشلل والاهتراء، ويقاس مقدار تفشيها بإقبال الأفراد على جعلها نمطا لحياتهم. منذ زمن بعيد، قال باكورة شهداء الفلسفة سقراط "إن الحياة التي لا تختبر غير جديرة بأن تعاش"، وهو يرمي إلى أن الحياة حين تخلو من مبدأ أو تفكير عميق تغدو رهينة للمصادفة العشوائية، أو يتحول الفرد فيها إلى دمية خيوطها بيد الآخرين يقررون بالإنابة عنه مسارات حياته واختياراته، وحياة على هذا النحو؛ يتنازل فيها المرء طوعا عن الإمساك بزمام مصيره وتنمية قيمه وإمكاناته، غالبا ما تصطبغ بابتذال الذوق وهشاشة الكيان وانكسار الخير بإطلاقيته.إن تدقيقا بسيطا في عبارة سقراط يبين لنا ما تنطوي عليه من دعوة للمرء بأن يضفي على حياته مقادير من الغنى والأصالة الفكرية عبر التفكير والتدبر في قضايا الحياة الكبرى كالقيم والغايات والمجتمع ومعنى الحياة نفسه، ومعرفة من هم أعداء التقدم والنماء الإنساني حقاً. قطعا ليس متوقعا أن يرقى تفكير الأفراد جميعهم إلى مصاف الاختصاصيين وأصحاب الفكر من حيث قدرتهم على صياغة نظريات متكاملة متماسكة، ولكن من الضروري أن يوجه الأفراد الفكر والتفكير إلى هذه القضايا كي تكتسب حياتهم معنى ما وتتجه إلى وجهة يرتئيها المرء نفسه.رحلة المرء في الحياة تماثل، إلى حد ما، رحلة المسافر إلى أرض غريبة، فحينما يقلب خريطة الأرض التي سيتجول فيها ويتأملها، ويوجه التفكير إلى الأماكن والمواضع التي تحتويها فإنه يشعر بنوع من الألفة للوجهة التي سيقصدها ويكتسب قدرا من المعرفة بمساربها وأماكنها؛ وبخاصة تلك التي يتطلع إلى رؤيتها. والمرء حين يعيش الحياة دون منحها تفكيرا وتأملا في قضاياها الكبرى أو قيمها، فإنه كالغريب في أرض مجهولة دون خريطة تهديه في غدوه ورواحه، فتستوي الأماكن والطرقات في نظره، ولا يعرف أيا منها يرتاد أو يتجنب، فينقضي الزمن وحاله كحال الفأر في متاهته!حياة الضياع التي هي صنو ثقافة الظواهر يستقر في جوفها الخواء والبلادة، وتعيد مرارا وتكرارا إنتاج الأقبح والأشنع، وتشهد في طورها المستفحل والعضال، عزوفا عن أروع قيم الإنسان المتمثلة بالتسامح والعطف والرحمة والحب والجمال. فالإنسان، وإن كان صانعا رئيسا للقسوة والجشع والدمار إلا أنه في تحرره من الجهل واللاعقلانية والقوى الجاثمة وراء الطبيعة كان الصانع الأوحد لمنجزات العلوم والفنون، ولم يتحقق ذلك إلا عبر بوابات الفكر والتفكر، والتوق الأبدي إلى تجاوز الظواهر للأعماق الثاوي فيها معنى الحياة وخيرها.