في ظل تراجع العديد من المؤسسات العامة، فإن ديوان المحاسبة لا يزال واحداً من الجهات الرقابية التي تمارس دور «الفلتر» في محاربة الشبهات المالية، وإعطاء ملاحظات فنية، إذ يدرس الديوان سنوياً مشاريع بقيمة تتراوح بين 7 و8 مليارات دينار، وفق مدد زمنية معقولة مقارنة بحجمها.

Ad

عاد إلى الواجهة مجدداً ملف استثناء المشاريع السكنية من الرقابة المسبقة لديوان المحاسبة، بعد أن تقدمت الحكومة بطلب للجنة الإسكانية البرلمانية، لإعفائها من الرقابة المسبقة، بعذر تسريع إنجاز المدن الإسكانية الجديدة، ولاسيما مدينة المطلاع.

ورغم ما يثيره هذا الطلب، حال إقراره، من مخاوف عالية تجاه تنامي شبهات الفساد المالي، فإنه من المفيد التذكير على الجانب العملي، بأن المؤسسة العامة للرعاية السكنية سبق أن حصلت بموجب القانون 7 - 2005 على إعفاء سابق من الرقابة المسبقة مدة 5 سنوات، من دون أن تحرز تقدما في تسليم الوحدات الإسكانية، بل إن ديوان المحاسبة نفسه رصد تأخيراً في تسليم الوحدات السكنية، بعد الإعفاء، بواقع 35 في المئة، إذ بلغت 1254 وحدة سنوياً بعد الإعفاء، مقابل 1927 وحدة قبل الإعفاء.

مدة ضئيلة

الغريب أن المدة التي تتطلبها عملية الرقابة المسبقة من ديوان المحاسبة على المشاريع الإسكانية تتراوح بين 30 و60 يوماً فقط، ما يوازي 2 إلى 4 في المئة من إجمالي الدورة المستندية للمشاريع الإسكانية، التي تصل في المتوسط إلى 1500 يوم، وهي مدة ضئيلة كرقابة، مقارنة بطول الدورة المستندية الخاصة بمؤسسة الرعاية السكنية وتعاملاتها مع الجهات الحكومية الأخرى، لذلك كان من الأولى أن تعمل الحكومة على اختصار ودمج العديد من الإجراءات البيروقراطية لدى أجهزتها، بدلاً من أن تطلب إلغاء الرقابة المسبقة التي تحمي الدولة من شبهات الفساد والتنفيع المالي.

حصلت مؤسسة الرعاية السكنية في الفترة الماضية على امتيازات غير مسبوقة، لتلبية الطلب على الوحدات السكنية، كأن تنفذ مشاريع الوحدات الإسكانية بشكل متكامل، بما فيها توفير الطاقة الكهربائية والبنية التحتية أو صلاحية التعاقد المباشر، بما يقل عن 10 ملايين دينار، ومع ذلك تأخرت «السكنية» في توقيع عقد تنفيذ البنية التحتية للمشروع، الذي كان مقرراً توقيعه في الربع الأول من العام الحالي، بعد أن تأخرت في طرح المناقصة، بسبب إجراءات بيروقراطية، وبالتالي فإن الخوف من أن تلعب الرقابة المسبقة دوراً سلبياً في تعطيل المشاريع الإسكانية أمر غير مفهوم، خصوصاً أن دور ديوان المحاسبة هنا هو التحقق من سلامة الإجراءات واستيفاء الشروط القانونية.

دور الفلتر

في ظل التراجع الحاصل في العديد من المؤسسات العامة، فإن ديوان المحاسبة لا يزال واحداً من الجهات الرقابية التي تمارس دور «الفلتر» في محاربة الشبهات المالية وإعطاء ملاحظات فنية، إذ يدرس الديوان سنويا مشاريع بقيمة تتراوح بين 7 و8 مليارات دينار، وفق مدد زمنية معقولة، مقارنة بحجمها، في حين أن التأخير في الغالب يكون من ناحية أعمال المقاولات والإنشاءات، أي في الجانب اللاحق على الرقابة المسبقة، وبالتالي يجب أن يكون العمل على تسريع إنجاز المشاريع من النواحي الإنشائية، وليس إلغاء الرقابة المسبقة، خصوصاً بعد أن تبين وجود عيوب في البناء، ناجمة عن ضعف رقابة مؤسسة الرعاية السكنية، في العديد من المنازل التي تم تسليمها للمواطنين في السنوات القليلة الماضية.

فتح الباب

مطالبة الحكومة، من خلال المؤسسة العامة للرعاية السكنية، باستثناء مشاريعها من الرقابة المسبقة لديوان المحاسبة ستفتح الباب أمام مطالبات متنوعة من جهات أخرى ترى أن مشاريعها لا تقل أهمية عن مشاريع الإسكان، كالكهرباء والأشغال والصحة وجامعة الكويت والتعليم التطبيقي، وغيرها كثير، ما يعني هدماً كاملاً لمفهوم الرقابة المسبقة، وتأسيساً لفوضى عارمة في بلد يحتل المرتبة 55 عالمياً في مؤشر مدركات الفساد 2015، الصادر عن منظمة الشفافية العالمية، وهذا أمر قد يجعل الترتيب في السنوات المقبلة أسوأ من الحالي.

بالعودة إلى الذاكرة القريبة، نجد أن الرقابة المسبقة لم تكن مسؤولة عن تأخير المشاريع الإسكانية، كما ورد بالتقرير، ولا مشاريع أخرى، كالمستشفيات ومحطات الكهرباء والطرق والجسور وجامعة الشدادية، فالعلة في التنفيذ لا الرقابة، التي كان من الأولى للحكومة أن تطلب من مؤسساتها، ومنها «السكنية»، التشدد في الإجراءات الرقابية، عوضاً عن الإلغاء، خصوصا في ظل تنامي الشكوى من الفساد والانفلات المالي.

البنك الدولي

وربما يتساءل البعض؛ أليست الرقابة اللاحقة كافية وتختصر الكثير من الوقت، لتحقيق إنجاز إسكاني ينتظره الجميع؟

الجواب عن السؤال يمكن أن يكون من تقرير البنك الدولي عن المشاريع والدورة المستندية في الكويت، الذي وصف أنظمة المراقبة والتقييم الحكومية بغير الفعالة والفاشلة، إذ تخفق العديد من الجهات، لعدم وجود تنسيق جيد أو غياب التكامل، كما أن إجراءات المراسلات والمعلومات غير فعالة، في حين أن المحاسبة ضعيفة، إذ لا توجد متابعة كافية للأداء الضعيف.

بطء وتعقيد

من المفيد القول إن دورة المشاريع في الكويت وإجراءاتها المستندية معقدة وبطيئة وتعاني ضعف الترابط المؤسساتي، بل تغلب عليها عمليات غير ضرورية، لدرجة أن أصغر القضايا لا يمكن حلها إلا على أعلى المستويات وعمليات تفويض السلطة نادرة جداً، والكثير من القرارات في الأغلب عديمة الأهمية، لذلك فإن مكافحة هذه العقبات أولى بكثير من العمل على إلغاء رقابة مسبقة يمكن أن تحمي المشاريع من العديد من الانحرافات المالية والفنية.