«ازدراء الأديان»... الفصل بين الدهماء والعلماء

نشر في 14-02-2016 | 00:00
آخر تحديث 14-02-2016 | 00:00
 ياسر عبد العزيز يبدو أن لكل مجتمع خطوطاً حمراء يريد أن يحافظ عليها من دون خرق أو تجاوز، وتلك الخطوط تتفاوت من مجتمع إلى آخر، كما تتفاوت الإجراءات الرادعة المستخدمة في كل دولة بحسب عوامل تاريخية وحضارية وقانونية وسياسية متعددة.

لا يكاد شهر واحد يمر على عالمنا العربي من دون أن نسمع عن قضية ازدراء أديان جديدة هنا أو هناك، حيث يرفع أحدهم قضية ضد باحث أو كاتب أو مدون، أو تنتفض السلطات وتوقف صاحب رأي، بتهمة الإساءة إلى الدين.

إن تلك القضايا تحظى باهتمام ورواج شديدين، كما أنها تلفت أنظار العالم الغربي، وربما تستدعي تعليقات من الأمين العام للأمم المتحدة، وانتقادات حادة من المنظمات الحقوقية الدولية، وتعبيراً عن القلق من دول صديقة عديدة، لا يحد منها سوى عمق الروابط التجارية والمصالح السياسية التي تربطها بالدولة التي تجتهد في "حماية الدين"، عبر الأنظمة القضائية ودعاوى الحسبة.

لا يقتصر هذا الأمر على مصر، حيث يقبع الباحث إسلام بحيري في السجن راهناً، لتمضية عقوبة جراء "ازدرائه الدين الإسلامي"، عندما "تجاوز في حق الأئمة الأربعة"، وحيث تواجه الكاتبة فاطمة ناعوت احتمالات سجنها بسبب اتهامها بـ"التهكم على شعيرة الأضحية".

لكن الأمر يمتد ليشمل دولاً عربية عدة؛ منها الكويت التي تعرض فيها كاتبان؛ هما نايف المطوع، وسارة الدريس لاتهامين مماثلين، العام الماضي، ومنها أيضاً السعودية، التي ما زالت تواجه تفاعلات حادة إثر حكمها على المدون رائف بدوي بالسجن والجلد، وهو الحكم الذي لاقى اهتماماً عالمياً واسعاً، والكثير من الشجب والإدانة.

يخطئ من يظن أن معالجة مثل تلك القضايا في عالمنا العربي يمكن أن تأتي عبر موقف "حدي" ينظر إليها من زاوية واحدة.

وبالتالي، فإن الحديث عن ضرورة إطلاق حرية الرأي والتعبير إلى حدها الأقصى، من دون أي قيود أو حدود هو حديث غير جدي، كما أن الحديث عن توقيع عقوبة السجن أو الجلد بحق أي "متجاوز" في قضايا العقيدة لا يمكن أن يكون مقبولاً.

هناك تنظيم لمسألة مقاربة العقائد في المجتمعات الأكثر رشداً وتقدماً، وهو تنظيم لا يعاقب على الرأي بعقوبات مادية حادة كالسجن والجلد في أغلب الأحيان، ولا يترك الحبل على الغارب بشكل يمكن أن يشكل انتهاكاً لحق المعتقدين أنفسهم في حماية مقدساتهم واحترامها، أو يفتح الباب للفتن والتمييز والكراهية بين أبناء المجتمع.

في الولايات المتحدة مثلاً، يعد "التعديل الأول" الذي طرأ على الدستور الأميركي عنصراً حاكماً يؤطر الممارسة الإعلامية وغيرها من الممارسات المتصلة بحرية الرأي والتعبير، حيث يحظر هذا التعديل سن أي قانون يحد من حرية الكلام، لكنه ينطوي أيضاً على فكرة عدم سن قوانين من شأنها الحض على ممارسة شعائر دين معين، أو الامتناع عن ممارسة شعائر دين معين.

يوفر هذا الاقتراب أساساً نظرياً صالحاً لفهم ما يجري مع بعض مقدمي البرامج الأميركيين (مثل "ريك سانشيز"، و"دون إيموس")، الذين تقوم وسائل الإعلام التي يعملون بها بإيقافهم أو طردهم، عندما يرتكبون مخالفات إهانة معتقدات بعض الأقليات الدينية، أو التمييز بين المواطنين على أسس الدين والعرق.

يرى النظام العام الأميركي أن هؤلاء الإعلاميين، وإن كانوا يعبرون عن آرائهم، إلا أنهم تجاوزوا "خطاً أحمر" في نظام إعلامي يوصف بالانفتاح والليبرالية... وهذا الخط يتعلق بأخطاء كبيرة؛ مثل "إثارة الكراهية"، و"التمييز الطائفي والعرقي"، و"الطعن في أصحاب العقائد". سيقودنا هذا إلى إيجاد تفسير لبعض "التناقضات" بين مفهومي الانفتاح وحرية الرأي من جانب، والإجراءات التقييدية التي تتخذ بحق بعض "المعبرين عن آرائهم" من جانب آخر، في المجتمعات الغربية.

فكيف سنفهم مثلاً أن الدستور في ألمانيا ينص على "الحرية المطلقة للضمير"، لكن البيئة التشريعية تحظر حظراً تاماً أي دعوة لشن حرب وأي "تشكيك في المحرقة"؟

وكيف سنفهم أيضاً ما تفعله فرنسا، التي تفرض عقوبات صارمة على "معاداة السامية"، إلى حد أن إحدى محاكمها أصدرت يوماً حكماً بالسجن ضد مفكر مثل جارودي، بسبب "رأي كتبه في كتاب"؟

يبدو أن لكل مجتمع من المجتمعات خطوطاً حمراء يريد أن يحافظ عليها من دون خرق أو تجاوز، وتلك الخطوط تتفاوت من مجتمع إلى آخر، كما تتفاوت الإجراءات الرادعة المستخدمة في كل دولة من دول العالم بحسب عوامل تاريخية وحضارية وقانونية وسياسية متعددة.

ثمة تعريفات عديدة لمفهوم الأمن القومي، كما يعرف الباحثون في علم السياسة؛ لكن أحد أكثر هذه التعريفات إثارة لاهتمامي ما قاله الباحث "أرنولد والفرز"، الذي رأى أن الأمن القومي هو "التدابير التي تتخذها الدولة لحماية القيم الحيوية للأمة".

سيُسهل علينا هذا فهم طبيعة الصراع الدائر داخل بعض دول أوروبا، وبين الكثير من دول القارة، الآن بخصوص استيعاب اللاجئين، أو الخلاف حول ما إذا كانت ما فعلته صحيفتا "جيولاندز بوستن" الدنماركية، و"تشارلي إبدو" الفرنسية، عندما نشرتا الرسوم المسيئة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، يمثل حرية رأي يجب حمايتها، أم يمثل انتهاكاً وتمييزاً وإشاعة للكراهية وحطاً من شأن أتباع دين معين، ويجب ردعه ومنعه.

حرية الرأي قد تكون قيمة حيوية في مجتمع ما أكثر من قيمة احترام العقائد، والعكس صحيح، كما أن مكانة كل من القيمتين يمكن أن تتبدل داخل المجتمع الواحد بتبدل الأوقات والظروف.

لا أحبذ بالطبع حجب أي رأي أو قمع أي تعبير، ولا أريد لعقوبة الحبس أن تكون جزاءً لكلام يقال، رغم أن هذا يحدث في بلدان كثيرة من هذا العالم.

لكنني أعرف جيداً، من جانب آخر، أن مقاربة "القيم الحيوية" لأي أمة يجب أن تكون من خلال جهد علمي وفني خاص ومدروس، وأن تأتي في شكل لائق ومتزن، وأن تنأى تماماً عن أي تحقير أو استخفاف، وأن تستهدف التنوير والمصلحة العامة، وليس الرواج والفرقعة وتحقيق المكاسب الوضيعة.

ومن ذلك، أن ما فعله طه حسين، أو نصر حامد أبو زيد، أو نجيب محفوظ، أو خليل عبد الكريم، لا يمكن أن يتساوى مع ما يفعله مدون أو مذيع أو طالب شهرة، يحقق نفسه عبر إهانة معتقدات الآخرين وتحقيرها.

فلنحمِ حرية الرأي والتعبير، على أن نفصل أيضاً بين الدهماء والمتسلقين والمدعين وبين العلماء وأصحاب الإلهام.

* كاتب مصري

back to top