الشاعر المصري سمير درويش: الزمن «يَلْعب» لمصلحة قصيدة النثر
• فاز بجائزة الشعر في «معرض القاهرة للكتاب» عن ديوان «أبيض شفاف»
يُحْسِن الشاعر المصري سمير درويش الظنّ بالشعر كثيراً، في زمن تنافس فيه الرواية نفسها على قلوب القرَّاء، لكن لحسن الحظ أن الشعر يبادله الشعور نفسه، فقد كان منذ ظهوره أوائل التسعينيات من القرن العشرين حتى اليوم، شاعراً منتجاً إن صح التعبير. أصدر نحو 13 ديواناً آخرها {أبيض شفاف}، وشارك في عدد كبير من المهرجانات الدولية والعربية، وحاز جائزة الشعر في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وهي الجائزة التي بدأت قبل عامين، وبدا أنها مُخصصة لقصيدة النثر. بغض النظر عن الجائزة، كان لا بد من أن نلتقي درويش الشاعر والمثقف، رئيس تحرير مجلة {الثقافة الجديدة}، الصادرة عن وزارة الثقافة... والشاهد على حراك الثورة المصرية، لنسأله على الأقل عن حاله الآن، كأحد الحالمين بعالمٍ جديد... وإلى نص الحوار:
مرت تجربتك الشعرية بـ«منحنيات جمالية} عدة، كيف أثرت الخبرة الطويلة في الصياغة النهائية لعالم الشاعر؟عندما بدأ جيلي الكتابة منتصف الثمانينيات، كانت الساحة مصبوغة بقصيدة أطلق عليها النقاد {قصيدة الحداثة}، تلك التي كان يكتبها الشاعر محمد عفيفي مطر وجماعة {شعر}، ويقلدها شعراء السبعينيات، ويحتفي بها إدوار الخراط الذي كان الأعلى صوتاً حينها والجميع يتسابقون لنيل استحسانه، كنا نحب صلاح عبد الصبور، ثم دخلنا نفق مطر وتابعيه لفترة قصيرة، وبعدها بدأ تحولنا تباعاً نحو قصيدة النثر. كانت في البداية مغموسة في جماليات الشعر القديم، ثم تخلصت منه مع تراكم التجارب والدواوين، لذلك ستجد أن معظمنا (وليس أنا فقط) مرّ بتلك المنحنيات نتيجة التغير الجمالي الذي كان يمر به الشعر كـ {فن}.هذه الرحلة الطويلة من الشعر العمودي حتى {قصيدة النثر}، بما فيها من تنقل داخل الشكل الواحد، جعلتني أؤمن أن السرد الشعري كان الخيار الوحيد لإنقاذ القصيدة العربية التي لفظت أنفاسها مرتين، الأولى في العصر المملوكي وأعادها البارودي للحياة بالرجوع إلى الوراء، والثانية حين توغل الحداثيون في الغموض غير الفني وغير المثمر وأعادها شعراء جيلي والأجيال التي تلته، فنحن لا نكتب قصيدة عمودية خالية من الإيقاع التراتبي، لكننا نكتب نصّاً مفتوحاً على العالم بكل ما فيه من جنون وفنون صاخبة ومتعددة ومختلفة، ومتصارعة غالباً.الذات التي كتبتْ {قطوفها وسيوفي} مطلع التسعينيات، بكل ما في قصائد هذا الديوان من عنفوان، في أي شيء اختلفت عن الذات {الخمسينية} المغتربة، في ديوانك الأخير {أبيض شفاف}؟الذات هي نفسها مضافاً إليها ثلاثون عاماً من القراءة والكتابة ومراقبة الناس والحوادث، ولا تندهش حين أقول لك إنني كنت واعياً لتلك النقطة حين بدأت في {أبيض شفاف}، وربما كتبته على هذا النحو لأجل ذلك بالتحديد. الاختلاف أن الذات الساردة في {قطوفها وسيوفي} لشاب يصعد السلالم ثلاثاً ثلاثاً، كان صدره لا يزال مفتوحاً لاستقبال الهواء، بينما ذات {أبيض شفاف} لرجل ناضج تخطى الخمسين وشارك في فساد الكون! والاختلاف الثاني هو جماليات الكتابة، ففي حين كان النص الأول شفافاً على طريقة الصوفيين الذين يبحثون عن النور داخلهم، عن طريق البحث عن الله، فإن النص الثاني شفافٌ لأنه موغل في الواقعية، أو {الواقعية الجديدة} إن شئت، حيث يصنع النص واقعه الموازي ويصدقه ويجعله بديلاً عن الواقع المتوحش الذي نعيشه، ترصد نصوص {أبيض شفاف} بدقة وحياد وادعاء اللامبالاة، كما يقول النقاد، ذات الشاعر والعالم الساكن المحيط به في مكان ضيق، مغلق، لا يسمع فيه إلا أصوات الطبيعة، وهواجسه وتهيؤاته وتحركات الكائنات التي تسكنه.كيف تخلص شعراء جيلك من قبضة الشعر الذي كتب على أيدي شعراء السبعينيات، وكنتم (شعراء الثمانينيات) قريبين منهم. يقول البعض إنكم انقلبتم عليهم بالاحتماء في الفضاء الواسع لقصيدة النثر... هل تعتبر ذلك التصور صحيحاً؟شعراء السبعينيات في العالم العربي عموماً علت أصواتهم على صوت الشعر، فخلطوه بالسياسة والسجالات الصحافية وهجاء الشعراء السابقين واللاحقين والعمل التنظيمي السري والتكتلات الشعرية ومجلات الماستر، فصنعوا مشهداً صاخباً وهم صغار السن، وكانوا يصدرون مقولاتهم بقناعة مطلقة، ويقين، ويهاجمون كل من يختلف معها بشراسة، فلم يسلم منهم أمل دنقل وجابر عصفور وشعراء الستينيات، واحتموا بمحمد عفيفي مطر وأحمد عبد المعطي حجازي، وحينما انقشع هذا الغبار، بعد أن لم تعد لديهم القدرة على الصراخ، لم يتبق منهم غير شاعرين أو ثلاثة هم الذين استطاعوا تجاوز الصخب إلى الشعر.لن أدعي أن هذا المشهد الملون لم يلفت انتباهنا في البداية، لكنني أتصور أن وعي القصيدة التي كتبها شعراء جيلي يمتد إلى رافدين ليس بينهم الشعر السبعيني: الأول هو صلاح عبد الصبور الذي أعتبره أهم شاعر عربي في العصر الحديث بعد أحمد شوقي، لأنه فهم بوعي أن الخروج ليس عن الإيقاع الخليلي التراتبي فحسب، بل عن النطاق الضيق الشفاهي للقصيدة العربية طوال تاريخها، فأنزل الشعر إلى العامة وكتب عن البسطاء وعن المواقف العادية والمألوفة، والثاني هو قصيدة النثر الغربية التي نقلها المترجمون، تلك القصيدة المدهشة من فرط عاديتها. كيف استقبلت الاحتفاء بديوانك، بعد فوزه بجائزة الشعر في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، حيث اعتاد الشعراء في أغلب البلدان العربية على التجاهل؟علمتني التجربة الطويلة ألا أفرح كثيراً ولا أحزن بعمق، فكلاهما يخرج المرء عن طبيعته، ومع ذلك كنت أنتظر أن يحصل {أبيض شفاف} على الجائزة لأعرف أن رهاني الفني عليه لم يضع سدًى، وأنني كنت محقاً حين اقتنعت أن الغوص في الذات أعمق ينتج نصوصاً صادقة يتفاعل معها من يقرأها ويرى فيها ذاته، كما أن الاستمرار لديوان كامل في مكان مغلق وضيق مع الوحدة والصمت يعد مغامرة فنية كبرى، لأن الخطر الأكبر هنا أن يكرر الشاعر ذاته، وتصبح القصيدة الأخيرة هي القصيدة الأولى، وأعتقد أنني كسبت الرهان وكتبت ديواناً جيداً.أعضاء لجنة التحكيم من الأصوات القليلة الجيدة في النقد الأدبي في مصر، وهذا مبهج، وعلمت أن العمل كان نزيهًا وشفافًا ولم يتدخل فيه أحد، كما قال لي أحدهم إن أسماء المتقدمين- وهي سرية بالطبع- تضم شعراء لهم تجارب لافتة، وبالتالي يحق لك أن تفرح، كل هذه العلامات جعلتني مبتهجًا، وطامعًا في المزيد!كتبت روايتين فقط، لماذا يكتب الشعراء روايات أو ما الذي يدفعهم إلى فعل ذلك. هل تصدّق أحلام مستغانمي حين قالت: {حين تفقد حبيبة تكتب قصيدة وحين تفقد وطناً تكتب رواية}؟لا أصدق أحلام مستغانمي في أي شيء تقوله. لكن بصرف النظر عنها فأنا لست روائيّاً، ولا أتحمس كثيراً لتجربتيَّ الروائيتين، رغم حصولهما على جائزتين، وقد كتبتهما في فترات فراغ شعري من باب الكسل الإبداعي وتفريغ الرأس، فالشعر هو مشروعي الأساسي، وأنا أعتبر أن الشعر رأس الفنون والآداب عموماً، فأي مجتهد يستطيع كتابة رواية جيدة، ونجيب محفوظ نفسه أحد أكبر المجتهدين، لكن لا يستطيع إلا قليلون كتابة قصيدة فارقة، لأنه مطلوب من الشاعر أن يختصر العالم في سطور عدة، أو في كلمات عدة، كما يكون عليه أن يبني جسداً معمارياً هائلاً بأطراف أصابعه، وهي مهمة مستحيلة إلا مع الموهبة المتوقدة.«الثقافة الجديدة»... وجهات أمنيةرداً على سؤال: لستَ قريباً من النظام الحاكم في مصر ولك انتقادات {مشهودة} على الأداء السياسي، لكنك في الوقت ذاته ترأس تحرير مجلة {الثقافة الجديدة}، التي تصدر عن وزارة الثقافة الرسمية، التي نلت جائزتها أخيراً. كيف حدث ذلك كله؟ قال سمير درويش: إن الحكومة المصرية تعامل الثقافة عموماً باعتبارها حارة مغلقة من أحد طرفيها، من يدخلها يظل حبيساً داخلها، لا يسمع أحداً ولا يسمعه أحد، لذلك أظنها لا تعرف أن ثمة مجلة اسمها {الثقافة الجديدة} تطبع ألفي نسخة كل شهر لشعب تعداده الرسمي تسعين مليوناً، وهي محقة من حيث الشكل لأن الألفي نسخة لا تباع بالكامل ولأن الأدباء لا يقرأون بعضهم بعضاً، وبالتالي لا يقرأهم أحد. لكنها بالتأكيد مخطئة في تقدير قيمة الثقافة، لأن الخطاب الثقافي ينتشر بهدوء دون صخب ويحدث التغيير فعلاً. تستطيع أن تعرف ذلك من مشهد الثمانية عشر يوماً التي أمضيناها في ميدان التحرير، فقد كان الناس يتحلقون حول المنصة الرئيسة، التي اعتلاها المثقفون، ليأخذوا عنهم قناعاتهم، ثم إن المثقفين هم الذين أخرجوا الناس من بيوتهم أصلاً، كما أن وزارة الثقافة جعلتني رئيس تحرير مجلتها- محدودة الطباعة- لأنها لا تريد لي أن أكون مديراً لمواقع ثقافية ومسؤولاً عن إقامة ندوات ومهرجانات... إلخ، فأنا عمليّاً أحد أقدم القيادات وأكبرهم سنًّا، وربما، لو لم أتواضع، أكثرهم قدرة على الإدارة، ومع ذلك فأنا عمليّاً بلا وظيفة، وأعتقد، غير جازم، أن جهات أمنية تقف وراء ذلك.وهل آن الأوان كي تحصل قصيدة النثر على جوائز الدولة، لتتساوى مع القصيدة العمودية والشعر الغنائي والعامي، أجاب بأن قصيدة النثر هي مستقبل الشعر العربي، وطريقه للخروج من أزمة كبرى، هي ضيق مجاله الجمالي الذي انحصر في التشبيه وتدرجاته، طوال ألف وخمسمئة سنة. فالشاعر الكبير من وجهة نظر النقاد العرب، هو من يستطيع صنع تشبيه مدهش، لذلك يجمعون على أن بيت عنترة {وودت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسِّم} هو أجمل بيت شعر عربي، لأن التشبيه فيه غريب ومختلف، يلتقط التشابه بين أحمر الشفاه الباعث على الحياة، وحمرة دم القتلى على السيوف.قصيدة النثر قد تخلو من التشبيه تمامًا ومع ذلك تصنع دهشتها الخاصة، ربما من فرط عاديتها، وربما من كثافة اللغة، ومن الذاتية المفرطة، وأتصور أنه بعد سنوات قليلة لن يكون أمام اللجان مفر من إعطاء هذا الشعر كل الجوائز، لأن الزمن (يلعب) لصالحه.