أتساءل بيني وبين نفسي ما هي علاقة حميمية الجدران بحميمية الناس فيما بينها!

Ad

أتذكر عندما كنّا أطفالا كانت بيوتنا في الحيّ متلاصقة، والجدران في معظم البيوت مشتركة، كل بيتين يشتركان ذات الجدار، وربما يشتركان جدراناً أخرى مع بيوت أخرى، هذه الحميمية بين الجدران كان يرافقها حميمية بين الناس التي تسكن خلفها، تكاد تكون تلك الجدران الحجرية شفافة أو من وهم مصطنع، لم تكن تفاصيل حياة الناس الذين تشترك معهم ذات الجدار مخفيّة أو غامضة، كل آهة هنا تجد صداها في آخر بيت هناك، وكل فرحة هناك تجد من يسرّح لها جدائلها هنا، الناس وخصوصا النساء كن يتبادلن حاجياتهن مع جاراتهن من خلف الجدران في أسطح البيوت من خلال أولادهن الصغار أو بناتهن، الأسرار تكاد تكون غائبة سوى الصغير منها أو ما كان يُراد لها أن تكون أسراراً، حتى "سفرة" الأكل الخاصة بأي بيت معروفة أطباقها الرئيسية في كل يوم عند كل البيوت الأخرى، بل إن روائح الطعام تنتقل من بيت لأخر ناثرة أسرارها بلا تحفظ، وبرغم هذا التمازج في الحياة بين الناس في الحي وهذه الحياة السافرة المكشوفة فإن أحداً لم يكن يشتكي من افتقاده للخصوصية في حياته الشخصية ربما لأنها لم تكن هاجساً، أو ربما لأنها لم تشكّل يوماً احتياجاً مُلحّا لأي منهم، مستغنين عنها بهذه الحميمية الصادقة بينهم، تتناولها أرواحهم طبقاً ساخناً في كل يوم، وصحن حلوى يشاركهم مجالسهم وفناجين القهوة وكاسات الشاي، حميميةٌ خلقت أُلفة طاغية بين الأفراد للحد الذي حيّدت فيه غالباً الفرديّة أو الرغبة في التفرّد أو التغريد خارج السرب.

في الوقت الحالي حتى وإن كانت البيوت متلاصقة كما كانت من قبل، إلاّ أنه لم يعد بين جدران البيوت  تلك الحميمية، ولم تعد تتبادل الأحاديث مع بعضها حاملة بعض تفاصيل الحياة اليومية للأفراد الذين يسكنون في محيطها، الآن أصبح السائقون وعاملات المنازل يقومون بهذه المهمة بينهم، الفرق أن الجدران كانت تفعل ذلك فيما بينها لا لفضح الأسرار ولكن للمشاركة في المشاعر!

 أصبحت مساحات البيوت أكبر من السابق، والمساحات المغطاة بخضرة العشب والأشجار وألوان الزهور بالحدائق  والنوافير أحياناً حاجزاً شاسعاً بين البيت وجدار ساحته، ناهيك عن البيت والبيت الذي يليه، وجدران البيوت أصبحت مزوّدة بالعوازل إمعانا في الخصوصية وعدم تسرب الدفء أو النسمات الباردة إلى البيوت المجاورة، ومزودة بأجهزة سحب الروائح حتى تقطع وشاية الهواء المتضمنة همسات العطور أو  حتى رائحة الأطعمة. صرنا أكثر حرصاً على تحصين خصوصيتنا المنزلية عن البيوت المجاورة، وأوعزنا لجدران بيوتنا ألاّ تحاول أن تقيم علاقة ودية مع جدران البيوت الملاصقة لها أو تجري معها أي حديث ودود، مما جعل المشاعر الحميمية بيننا وبين من يقطنون خلف تلك الجدران مفقودة أو تكاد.