لا شكّ أن إدارة بوش الأب كانت تعلم كيف تُجري مفاوضات، فقد شهدت على المفاوضات المعقّدة حول وضع ألمانيا ما بعد الحرب الباردة، وعلى تشكيل ائتلاف واسع بمعزل عن الآخرين لتحرير الكويت، وعلى الحوار المتواصل مع السوفيات الذي ساعد على الحؤول دون نشوب حرب كبرى.
يشتهر الرئيس الأميركي باراك أوباما بإعجابه الكبير بخلفه جورج بوش الأب الذي وصفه أوباما أخيراً بأنه "أحد الرؤساء الأقل تقديراً على الإطلاق"، وذكر أوباما أنك "عندما تُمعن النظر في الطريقة التي أدار بها السياسة الخارجية، تلاحظ أنه كان رصين التفكير، ومنضبطاً، وصاحب قرارات صائبة"، وشبّه رام إيمانويل، رئيس موظفي البيت الأبيض السابق تحت إدارة أوباما، الأخير صراحةً قبل بضع سنوات بالرئيس الواحد والأربعين للولايات المتحدة جورج بوش الأب، عازياً ذلك إلى ما يُسمّى "الواقعية السياسية" التي يعتمدها أوباما، وتمتّعه بغريزة "الدم البارد" حيال المصلحة الخاصة الوطنية، وفي ما يتعلّق بهذا الشأن يكون أوباما الوريث الطبيعي لبوش الأب، عوضاً عن نجل الأخير، الرئيس السابق جورج بوش الابن.كان جورج بوش الأب يتوخى الحذر فعلاً، والأهم من ذلك كان يحتلّ مكانة قوية ويبعث حسّ القناعة، ويتّخذ قرارات مجازِفة وصعبة أتت بمثابة ملحق لجهود الرئيس السابق رونالد ريغان، وينسى الناس أن توحيد ألمانيا وضمّها بالكامل إلى حلف "الناتو"، بدلاً من ترك المنطقة الشرقية محايدة، لم يكن تحصيلاً حاصلاً على الإطلاق، ففي ذلك الوقت كان أمراً مثيراً للجدل بشكل كبير في الولايات المتحدة وأوروبا على حدّ سواء، وسط تشكيك محرري الصحف الرئيسة وشخصية عظيمة حتى كالراحل جورج كينان في الأمر.وفي نهاية المطاف، لم يكن طاقم إدارة بوش مستعداً أبداً لتقديم تنازلات على حساب تحرير الكويت من قوات صدام حسين العراقية وخاض بوش الحرب، وعلى غرار ضمّ فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم إلى روسيا وعدوانه على شرق أوكرانيا، والعدوان الصيني على بحر الصين الجنوبي، كان غزو صدام للكويت عبارة عن عملية تقصٍّ تقليدية، أي عملية عسكرية مُحكمة لاختبار ردود الغرب، غير أن العملية التي نفذها صدام كانت أكثر حدّة من المثليْن السابقيْن. مع ذلك، لم ينجح أحد في التقصي بوجه الغرب في عهد بوش الأب، وعندما حاول صدام القيام بذلك، مُني بهزيمة كبيرة، ولم يكن الاختيار سهلاً، إذ اشتدّ الجدل السياسي في واشنطن حول ما إذا كان ينبغي طرد الجيش العراقي من الكويت، واستمر لأشهر عدة، وكاد الكونغرس ينقسم بشأن هذه القضية، وألقى وزير الخارجية في إدارة أوباما جون كيري، الذي شغل منصب سيناتور آنذاك، خطاباً حماسياً ضد ذلك، وبعد النظر في السيناريوهات كافة، بدا قراراً واضحاً. علاوةً على ذلك، أقدم بوش عشية انتخابات عام 1990 النصفية الأميركية، في ظل احتدام النقاش حول ذلك، على تعزيز القوات الأميركية بشكل هائل، بما في ذلك بعض الاستدعاءات الاحتياطية، الأمر الذي لا يُعتبر تحديداً خطوة حذرة مشتركة بين الرئيسيْن كحدٍّ أدنى!فلا شكّ أن إدارة بوش الأب كانت تعلم كيف تُجري مفاوضات، فقد شهدت على المفاوضات المعقّدة حول وضع ألمانيا ما بعد الحرب الباردة، وعلى تشكيل ائتلاف واسع بمعزل عن الآخرين لتحرير الكويت، وعلى الحوار المتواصل مع السوفيات الذي ساعد على الحؤول دون نشوب حرب كبرى، وسط انهيار إمبراطوريتهم في أوروبا الوسطى والشرقية. هل يعتقد أحد حقاً أن جيمس بيكر كان ليتفاوض مع إيران بالطريقة نفسها التي اعتمدها كيري؟ دلّ موقف الأخير العلني على حالة يأس بغية التوصل إلى اتفاق، أما بيكر فلما كان اقترف هذا الخطأ، وعلى الأرجح أنه لكان خرج بنتائج أفضل على نحو أكبر، صارفاً بذلك فكرة التودّد إلى إيران نهائياً من اعتبارات بعض الدول الكبيرة الخصمة، كما كان طاقم إدارة بوش في الشرق الأوسط وضع استراتيجية إقليمية أفضل تجاري سياسة الانفتاح على إيران، من شأنها التخفيف من توتُّر حلفائه على غرار السعودية وإسرائيل. إذ إن الدافع وراء العدائية التي أظهرتها السعودية وإسرائيل تجاه المحادثات مع إيران يعود جزئياً إلى عجز البيت الأبيض تحت إدارة أوباما عن عكس قوة وقناعة تتماشى مع سياسة التعاون الدولية بشكل عام لا في الشرق الأوسط فحسب.من جهة أخرى لم تكن سياسة بوش الخارجية مثالية، فقد شكّل عجز الإدارة الأميركية عن وقف الحرب الأهلية اليوغوسلافية في بداياتها خطأ مفاهيمياً ترافق مع تبعات إنسانية كبرى، غير أنه في ظل قدومها بعد انهيار جدار برلين بوقت قصير، لم تكن هذه الإدارة، في المراحل الأولى على الأقل، غير منطقية في رغبتها في اختبار ما إذا استطاع الأوروبيون إدارة الأزمة في قارتهم من دون تدخُّل الولايات المتحدة.وفي ما يتعلّق بأوروبا تَمثّل العمل الأبرز لإدارة أوباما بسحبه كتيبتيْن مقاتلتيْن من القارة المذكورة خلال عام 2012 وهي لحظة اعتبر فيها أوباما أن "المهمة قد أُنجزت"، وتلت الغزو الروسي لجورجيا الكبرى، وبالتالي شكّلت لبوتين إشارة على أنه بات يتمتع بحرية منذ ذلك الحين في التقصّي في أوكرانيا وسورية، وتُظهر القوات الميدانية أكثر من السفن والطائرات، استعداد الولايات المتحدة لسفك الدماء نيابةً عن حلفائها الأوروبيين. بعبارة أخرى ثمة فرق شاسع بين الجنود المتناوبين داخل أوروبا وخارجها، والجنود المتمركزين بشكل دائم في تلك القارة، من حيث سرعة الردّ على العدوان الروسي. لذا لا تزال الولايات المتحدة تبدو ضعيفة، على الرغم من زيادة العديد والعتاد المُرسلة إلى أوروبا أخيراً، كذلك يبدو التباين مع جورج بوش الابن أكبر، فنحن نتعجّب أمام ضبط النفس الذي تحلّى به بوش الأب، وبراغماتيته تحديداً لأنها كانت مدموجة بمهارة مع توقعات علنية تتمحور حول القوة الأميركية.ويقف سبب آخر وراء عدم تقبُّل التشبيه بين أوباما وبوش الأب بشكل كامل، إذ إن الحزب الجمهوري يحتاج في خضم أزمة الهوية التي يعانيها إلى أمثلة من ماضيه جديرة بالاقتداء بها بغية التوصل إلى تجدُّد الوحدة والقوة للمستقبل، وتحديد هويته، ويمكن القول من دون شكّ إن إدارة الرئيس جورج بوش الأب مثّلت آخر سياسة خارجية حكيمة ومُطبّقة بشكل صحيح، وكانت سياسة تلقى رواجاً في الأوساط الجمهورية ولدى الشعب الأميركي كلّه في الوقت نفسه.وعن طريق الجمع بإتقان بين تقاليد الواقعية السياسية والسياسة الويلسونية فحسب، يستطيع الجمهوريون أن يأملوا بالحكم على نحو فاعل، ويبدو التقليدان متعارضيْن إلا أنهما في الواقع ليسا كذلك، لأن التدخل دفاعاً عن قيمنا لا يمكن أبداً أن يحقّق نتائج فاعلة من دون التخطيط لعملية تستوعب المشاكل المقبلة جميعها، غير أنه يتم تجنّب المآسي عبر التفكير بشكل مأساوي، ويجب التوصّل إلى تركيبة ريغانية حديثة بواسطة هذيْن المفهوميْن، وإيلاء سياسة جورج بوش الابن أهميةً كبيرة لعدم تكرارها، فإدارة بوش الأب لم تشكّل نقيض السياسة الريغانية، بل إحدى محصّلاتها. *«ذي ناشيونال»
مقالات - زوايا ورؤى
أوباما ليس جورج بوش الأب
10-03-2016