«لصوص متقاعدون»، هي رواية حمدي أبوجليل الأولى، وكنت قد قرأت له رواية «الفاعل»، التي فازت بجائزة نجيب محفوظ، وسبق أن كتبت عنها مقالا، أبديت فيه إعجابي بها، ولا أتذكر متى كتبته، لكنها كانت عملا مدهشا وصادما، بصدقه وبكشفه عن سيرة الكاتب البدوي وعوالمه السفلية، ما بين «الفواعلية»، أي العمال الذين يشتغلون بالفاعل، حينما كان يشتغل معهم وينام بغرفة مع ثلاثة أنفار هو رابعهم.

Ad

وبعمله هذا كشف عن حياة هؤلاء الذين يعيشون في حياة الوعر، ويتلقطون رزقهم يوما بيوم حسب «التساهيل»، ومع هذا الفقر والواقع الصعب، إلا أن لهم حياة أخرى يقتنصون فيها الجنس والمنكر والخروج عن القانون في عالم الهروب من القانون.

روايته «لصوص متقاعدون» هي الأقدم، لكنها أيضا تحمل ظلالا من سيرة الكاتب في القاهرة وسكنه في مدينة حلوان بمنشية جمال عبدالناصر، التي أنشأها لعمال المصانع كسكن لهم.

لا تختلف عوالم هذه الرواية عن روايته «الفاعل»، لا أقصد تكوين الحكاية، لأنها تختلف تماما عن أختها الفاعل، التشابه آتٍ من الغوص في فهم روح الشخصيات وطريقتها في التفكير والتصرف بالقرارات. هناك مناخ غامض غريب يخيم على أرواحها، شيء متوحش ضال يشي بوعورتها وبأنيابها وأظافرها الكامنة خلف سكونها وعاديتها، شخصيات لا تمنح الطمأنينة، ولا يأنس المرء لها، فيها من الذئبية المخبأة لحين العوز لها، ولا أدري إن كانت هذه مستمدة من طريقة تفكير الكاتب وشخصيته التي توحي بهذا الغموض «الحرش»، الذي يضع القارئ على مسافة تصعب عليه الإيغال بالتكهن والإيناس بالاقتراب من الكاتب.

«لصوص متقاعدون» تبدأ من مالك العمارة أبوجمال وأولاده، ثم تتقصى حكايات سكان العمارة فردا فردا، وتمتد لتلتهم حيوات الجيران، ومن قصة لقصة تتوالد الحكايات التي تعري أرواح شخصيات الرواية، وتكشف نواياهم الخفية وأفعالهم، شخصيات مرسومة بدقة، وباختصار ملقوف لقف من دون فائض أو ترهل غير مطلوب، فقط تركيز حاد مثل سهم عرف مقتل إصابته، فنغرز بسرعة البرق فيها، فجاء التركيز على أهم ما يشكل الشخصية في صفاتها وأفعالها، وتحديد رغباتها النفسية، وما تريد فعله، بحيث جعلت القارئ يعيش معها، وكأنها مولودة معه، ومساكنها من جذر منبتها.

حكاية البيت رقم 36، أي عمارة أبوجمال وأولاده وسكانها وفضائحهم التي تتوالد قصصها وأحداثها من بعضهم البعض، فضائح ناسه الغرباء تتناسل من أفواههم ونميمتهم. بدأ من العمارة وشارعها ومالكها وزوجته وأولاده وزوجات أولاده وسكان الشقق بحكاياتهم والراوي بذاته وقريته وأهله وعمال مصانع المنشية وتجار المخدرات وجلساتهم والفلاحين وعوالم لا تنتهي كلها تبيض حكاياتها الآتية من كاتب ذي ملكة جديدة في الحكي الحداثي الذي يربط ما بين خيوط تناسل الخواطر في كتابة تملك نفس مختلف وإحاطة في عوالم ليست جديدة على القص، لكن الكاتب تناولها بطريقته الواقعية الكابوسية الساخرة الواشمة بثقلها على إحساس القارئ بربط درامي ساخر عنيف يشبه العصر السريع العصبي الذي يعيشه، ولا يسمح أو يمكنك من التريث والبطء الذي كان في غير زمنك ولكتاب آخرين عايشوا بطئه وكتبوه ببطء يماثل حركة زمنهم، لذا جاء السرد بانهمار لاقط.

المهم والأهم في حكايات حياة الشخصيات تعريها علاقات أبطال الرواية مع بعضهم البعض، فكل شخصية تنير وتضوي على غيرها، فمثلا سرد أحداث حياة عادل تنور وتكشف عن حياة جمال وفي نفس الوقت حياته تنور حياة «أبوعادل»، وهكذا يُعاد سرد المشهد الواقعي بعد المتخيل كلعبة تقنية تزيد من تشويق السرد الذي يتقنه حمدي أبوجليل بنكهته الخاصة، كما يراهم ويصفهم في هذا المقطع: «هم بالتأكيد مؤمنون، مؤمنون بالفطرة، فحياة الصحراء دائما تهددها أشياء غامضة غموض اختفاء فم البئر، أو غياب المطر أو التيه أو قسوة لدغة الأفعى... أشياء لابد من التحصن بالإيمان بأشياء أخرى لا تقل غموضا، يسمونها القدر أو الناموس أو لعنة الأسلاف».

حمدي أبوجليل هو كاتب قصة قصيرة أكثر مما هو روائي، وله مجموعات قصصية، هي: «أسراب النمل»، «أشياء طويلة بعناية فائقة» و«القاهرة شوارع وأفعال»، وكلها فازت بجوائز مؤسسات مختلفة، وربما يكون نفس القصة القصيرة وتركيزها المكثف سببا في تشكيل سرده الروائي بهذا الشكل الذي انعكس عليها بالاختصار الموجز.