مزرعة الحيوان
تظل رواية «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل أيقونة من أيقونات الأدب المعاصر، ليس لأنها تدين وتفضح الثورة الشيوعية منذ عهد ستالين وما انتهت إليه من استبداد وفساد، بل لأنها تحمل بذرة الأصالة الفنية والفكرية التي تجعلها متخطية زمانها، وصالحة لتمثيل كل صنوف الدكتاتوريات السابقة واللاحقة.من يتمعن في تفاصيل «مزرعة الحيوان» الصادرة عام 1945، أو في رواية جورج أورويل الأخرى المعنونة (1984)، والتي صدرت بعدها بأربعة أعوام، سيدرك النبوءة المشؤومة التي كان الكاتب يرى نُذُرها المستقبلية تهدد استقرار العالم وأمنه، وتودي بكل ما أرساه من أسس الديمقراطية ودعوات التنوير وتحرير الإنسان والحفاظ على كرامته ومنجزاته.
فقد كان الإنسان أولاً وأخيراً هو مدار اهتمام المؤلف ومنطلقه في روايتيه سالفتي الذكر، وكان قلقه يتعاظم إزاء انسحاق الإنسان وتآكل روحه أمام آلة الاستبداد وظلال الديكتاتوريات البغيضة التي يرى أنها معول الهدم الأول لكل القيم والمنجزات الإنسانية في كل زمان.ويبدو أن شعوره بوطأة الأنظمة الدكتاتورية، وما تقترحه من إعادة برمجة لفكر الإنسان بما يتناسب ومصلحة النظام وأهدافه التسلطية، هو ما حدا به إلى إعادة تمثيل الوضع من خلال مزرعة أبطالها من الحيوانات، خنازير وأحصنة وأبقار وكلاب ودجاج وحمام... إلخ. وهذا ليس ازدراء لعالم الحيوان حين التشبيه والمقاربة، بل هو من قبيل التناول التخيلي والفني، وربما من قبيل الإشارة إلى سخرية مبطنة أو تهكم لاذع على حال لا تختلف كثيراً عما يقترحه الكاتب ويرسمه في أجواء روايته وتفاصيلها. قد لا يهم سياق الحكاية في «مزرعة الحيوان» في هذا المقام، ولكن الأهم قدرتها- من خلال أبطالها وتمثيلهم للأحداث– على إثارة كل المشاعر المرتبطة بالشفقة والألم والامتعاض والروع، ثم كيف تورثك الحكاية ذلك الكم من القلق وأنت تتأمل في المصير الذي آلت إليه المزرعة وحيواناتها، أو بالأحرى ما تؤول إليه البشرية في غياب منظومة قيم الحريات والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.بعد انهيار النظام الشيوعي الذي يدينه جورج أورويل ويدين استبداده وفساده، نبتت قبله وبعده كل ألوان الدكتاتورية في بقاع العالم القريب والبعيد، من شرقنا الأوسط إلى الأقصى والأدنى، فأميركا اللاتينية إلى إفريقيا السوداء وما شئت من بقاع متفرقة هنا وهناك يُمارس فيها اضطهاد الإنسان سراً أو علانية. بل يبدو أن العالم مؤخراً آخذٌ في الغرق في طوفان العنف والإرهاب وحروب التطرف والكراهية واستلاب الإنسان، ولم يسلم من هذا الوباء حتى الديمقراطيات العريقة التي طالما رفعت رايات دعوات التسامح والتعايش السلمي وحقوق الإنسان! فالمشهد العالمي يقترب كثيراً من نبوءة جورج أورويل، وكثير من الدكتاتوريات باتت تطبق ما جاء في «مزرعة الحيوان»، وتفعل ما يفعله «الأخ الأكبر» في رواية (1984) بكل دقة وإتقان! ابتداء من السيطرة الكلية على مقدرات الإنسان، مروراً ببرمجته واستلاب روحه، ثم إفراغه من إنسانيته وتاريخه وميراثه من خلال غسل الدماغ أو الاضطهاد أو التعذيب، وانتهاء إلى ضمان استسلامه وتبعيته المطلقة للنظام أو الحزب أو الجماعة مثل أي داجن أليف يرعى ما يُهيّأ له من كفاف العشب والماء.في وقتنا الراهن ليس بالضرورة أن يكون (الأخ الأكبر) نظاماً سياسياً أو رئيساً مطلقاً كصدام حسين أو القذافي أو بيرون أو ستالين، بل بتنا نرى العديد من (الأخوة الكبار) في لباس الدين أو الطائفة أو الحزب يمارسون الوصاية على توجهات الإنسان وفكره وأسلوب معيشته ومعاشه، فقد تعددت (الأخوة) والاستبداد واحد، ولم يبق من منفذ للتعبير عن وطأة هذا الكابوس غير الكتابة عنه، فلعل الكتابة تكون شهادة للتاريخ.لقد راجت في الآونة الأخيرة كتابات أدب السجون والمعتقلات، وغدت النافذة الوحيدة لفضح الأجهزة القمعية ومن يقف وراءها ويؤازرها في هذا المضمار السير الذاتية والاعترافات والمذكرات التي يكتبها المعتقلون السياسيون والسجناء، والتي بلا منازع تحفل بتفاصيل مفجعة تحيل القارئ إلى الكثير من الأسئلة الكبيرة والملحّة. وأولها السؤال عن مدى نجاح الحضارة الإنسانية في مهمتها الأصعب، وهي صناعة الإنسان: وارث الأرض وما عليها، قبل أن تصبح مجرد «مزرعة للحيوان» كما تنبأ جورج أورويل.