العدالة في فكر صبري أبو علم

Ad

"أليس هو الحارس للشرف والعرض والمال؟ أليس من حق الناس أن يطمئنوا إلى أن كل ما هو عزيز عليهم يجد في كفالة القضاء أمنع حمى وأعز ملجأ؟ أوليس من حق الضعيف إذا ناله ضيم أو لحق به ظلم أن يطمئن إلى أنه أمام القضاء قوي بحقه، عزيز بنفسه مهما كان خصمه قوياً بماله أو جاهه أو سلطانه؟ أوليس من الحق أن يتساوى أمام قدس القضاء، الحاكم والمحكوم، وأن ترعى حمى الجميع عين العدالة؟".

إنها كلمات من نور كتبها صبري أبو علم، وزير العدل الذي صدر في عهده أول قانون لاستقلال القضاء في سنة 1943، سطرها بخط يده في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون.

العدالة في فكر نقيب المحامين

ويقول نقيب المحامين الراحل مكرم عبيد ووزير مالية في أوائل الأربعينيات في كلمات بليغة عبر فيها عن إحساسه العميق بالعدل، في مواجهة السياسة بأساليبها ودروبها ومسالكها الوعرة.

"السياسة والعدالة ضدان لا يجتمعان... وإذا اجتمعا لا يتمازجان... والواقع أنهما مختلفان في الطبيعة والوسيلة والغرض... فالعدالة من روح الله والسياسة من صنع الإنسان...

العدالة تطلب حقا والسياسة تبغي مصلحة... غير أن أخطر ما في السياسة أنها ترى من حسن السياسة أن تخلع على المصلحة رداء الحق".

مواقف جليلة لوزراء أجلاء

لقد استقال وزير عدل في مصر واستقالت معه الحكومة في ظل الاحتلال البريطاني والقضاء المختلط، عندما توجه أحد القضاة الأجانب إلى المندوب السامي البريطاني، ليبرئ نفسه من حكم أصدرته المحكمة التي كان يترأسها ببراءة بعض المتهمين في جرائم سياسية اتهم فيها بعض الوطنيين باغتيال بعض الرعايا الإنكليز، وقد استقال وزير العدل استنكارا واحتجاجا على هذا المسلك الذي اعتبره خروجا على التقاليد القضائية في المحاكمة التي جرت للدكتور أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي وآخرين، لارتكاب حوادث اغتيال الرعايا الإنكليز المصريين، والتي أصدرت فيها المحكمة حكمها القاضي ببراءة خمسة من المتهمين منهم الدكتور أحمد ماهر الذي كان وزيرا للمعارف في وزارة سعد زغلول، ومحمود فهمي النقراشي الذي كان وكيلا لوزارة الداخلية فيها، فقد توجه رئيس المحكمة كيرشو إلى دار المندوب السامي ليطلعه على رأيه الذي كان معارضا لبراءة الدكتور أحمد ماهر وآخر باعتبار ذلك من واجبه، حماية للأجانب.

واستقال أيضا عبدالفتاح يحيى وزير عدل راحل في بداية الثلاثينيات في مصر، واستقال تضامنا معه علي ماهر وزير المعارف استنكارا واحتجاجا على التعذيب الذي أثبتته محكمة النقض في حكمها في القضية المعروفة بقضية البداري، وهو الحكم القاضي بإعدام متهمين قتلا مأمور مركز البداري، حيث أثبتت المحكمة في حكمها تعرضهما لتعذيب وحشي من المأمور، لإجبارهما على الاعتراف بجريمة لم يرتكباها فتربصا له وترصداه بين عيدان الذرة عدة أيام وأطلقا عليه الرصاص فأردياه قتيلا.

حجاج آخر

فلم يكن الحجاج فردا، بل كان نظاما استمر قرونا طويلة بعد موته، يقتل ويعذب ويشرد وينتهك الحرمات، رافعا راية الظلم باسم الإسلام، ثم باسم القانون.

استعدت في هذا السياق الكلمات السابقة والمواقف الجليلة لوزراء العدل في حماية العدالة والذود عن استقلال القضاء والتقاليد القضائية، وأنا أتابع بيانا لبعض القضاة، وكلمات قالها بعضهم دفاعا عن إنجازات الزند الضخمة التي حققها في شهور قليلة، شغل فيها منصبه، والتي لم يستطع أي وزير عدل قبله أن يحققها في سنوات طويلة.

فماذا حقق عندما أعلن أنه سيقتص عن كل شهيد بعشرة آلاف من هؤلاء الذين أخطؤوا في حق الدولة، وأن أحكاما بالإعدام تنتظر أربعمئة ألف منهم في إبراز الوجه المضيء لمصر في تحقيق العدل، وأنه ليست هناك محاكم استثنائية، وأن كل المحاكمات تجري أمام القاضي الطبيعي.

لم يختلف تصريح الوزير الزند السابق عن الدعوة التي أطلقها الإرهابيون في فترة حكم الإخوان ومنهم د. محمود شعبان بقتل كل من يخرج على طاعة الحاكم.

والدعوة التي أطلقها المهندس عاصم عبدالماجد عضو مجلس شورى الجماعة في حشد كبير حمل شعار لا للعنف، أعلن فيه أنه يرى رأي الحجاج، رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لقاطفها بإذن الله.

ويبدو أنه لم يقرأ التاريخ جيدا، فقد روي عن الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أنه قال: "لو جاءت كل أمة بخطاياها يوم القيامة، وجئنا نحن بالحجاج وحده لرجحناها جميعاً. كان الزند يريد أن يصبح حجاجا جديدا.

الزند كان يبشر بدين جديد

وفي توعد الوزير بأن يكون قصاص الشهيد بعشرة آلاف عودة إلى الجاهلية، وقد جاء الإسلام في القصاص مساويا بين الناس جميعا، شريفهم وكبيرهم وضعيفهم، فالنفس بالنفس وإن هلكت، والإسراف في تقدير المقتول ليس من أدب الإسلام.

لأن الشرف ليس في الإجرام وإنما الشرف في تجنب الإجرام، وإن تجنب الإجرام سهل على الشرفاء والأقوياء، وقد يكون صعبا على بعض الضعفاء، فكان الحق على الأقل أن يتساوى القوي الشريف في العقاب مع الضعيف (العقوبة للإمام محمد أبو الزهرة- دار الفكر العربي ص 68).

 "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، وكذلك قوله تعالى: "الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"، ويقول المولى عزو وجل "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، ويقول سبحانه "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ". (الأنبياء- 107)، ويقول سبحانه "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ".