عقد الألمان عام 1884 عشر معاهدات مع زعماء القبائل وملوك مناطق شرق إفريقيا بواسطة "كارل بيترز" مؤسس "الجمعية الألمانية للاستعمار" وأحد أنشط دعاة التوسع والضم في إفريقيا، وكانت هذه المعاهدات تنص على استقلال هذه المناطق عن سلطنة زنجبار العربية، بما لها من روابط مع بريطانيا، وتنص على تنازل عن الأراضي لإمبراطور ألمانيا ويلهلم الكبير، وبالتالي فرض الحماية الألمانية على تلك المناطق.

Ad

ويشير د. بنيان تركي في بحثه عن "ثورة الشيخ بشير الحارثي" إلى أن هذه الاتفاقيات التي قام بها "بيترز" و"جوهلك" لم يُستشر فيها الحكام العرب، كما أن "الكثير من السلاطين والملوك الأفارقة الذين وقّعوا تلك الاتفاقيات لم يدركوا خطورة ما أقدموا عليه، مع ملاحظة أن تلك الأراضي تخضع على الأقل اسمياً لسلطان زنجبار"، ويضيف أن الإنكليز حاولوا مساعدة السلطات إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل، وهكذا أعلنت الحماية الألمانية على تلك الأراضي، واعتبرت الحكومة الألمانية "كارل بيترز"، رئيس الجمعية الألمانية للاستعمار، ناطقاً باسمها، واتخذت عدداً من الخطوات لدعم موقعها وتعزيزه، وأبلغت سلطان زنجبار السيد "برغش بن سعيد" بإعلان حمايتها على منطقة شرق إفريقيا، وذهبت اعتراضات السيد برغش أدراج الرياح.

 ويضيف د. تركي "إن بريطانيا الحليف القوي للأسرة البورسعيدية- حكم زنجبار– أخذت تبحث عن مصالحها ضاربة عرض الحائط بطلبات السلطان ومتخوفة من أن تبتلع ألمانيا المنطقة، ولهذا وجدت أن مصالحها تحتم عليها التعاون مع ألمانيا لا مواجهتها".

اضطر السيد برغش إلى الإذعان تحت تهديد الأسطول الألماني عام 1885، وتنازل عن حقوقه البحرية في ميناء "دار السلام"، ووقع عدداً من الاتفاقيات التجارية الجديدة مع ألمانيا، وتم اختيار دار السلام كميناء بحري مهم للنشاط الألماني، وتم كذلك تكوين مستعمرة شرق إفريقيا الألمانية وبسط نفوذها على الشريط الساحلي، وقد أثار هذا كله حفيظة العرب والهنود من تجار المنطقة، وكذلك السلطان الجديد "خليفة بن سعيد" الذي وجد نفسه مضطراً إلى توقيع عدد من الاتفاقيات، وقد "ترتب على ذلك رد فعل قوي من السكان المحليين والقوى الوطنية الفاعلة في المنطقة، وتعد ثورة الشيخ بشير الحارثي ضمن الثورات الوطنية التي ناصبت النفوذ الألماني العداء".

انحدر الشيخ بشير من قبيلة "الحرث" العربية، التي "لعبت أدواراً مهمة وحيوية في تاريخ عمان وشرق إفريقيا وفي مقاومة النفوذ الأجنبي، كما شاركت في الصراع على السلطة في سلطنة زنجبار العربية، واستعان العديد من أبناء السيد سعيد بهذه القبيلة العربية للثورة أو الثوب على السلطة".

كان بشير الحارثي شيخ دين لا شيخ قبيلة، ويقول الباحث إن أهالي المنطقة الساحلية في البر الإفريقي قد استدعوه للقدوم لقيادة حركتهم التي أطلق الألمان عليها اسم "التمرد العربي"، كما كان الشيخ الحارثي ومنذ زمن بمثابة "منافس للأسرة الحاكمة البوسعيدية في سلطنة زنجبار العربية".

ويقول د. تركي: "من المرجح أن تفسير موقف الشيخ بشير الحارثي من الأسرة البوسعيدية يكمن في أن السيد سعيد وأبناءه من بعده كانوا يميلون إلى التسامح الديني بمعناه الواسع الذي يشمل المسلمين وغير المسلمين، بمن فيهم رجال الإرساليات التنصيرية، ولعل تدين الشيخ بشير الحارثي وما يراه من نشاط تبشيري واسع بدعم غربي وسكوت عربي هو سبب موقفه من أسرة البوسعيد الحاكمة، وأجمع كل من زار الساحل الشرقي للقارة الإفريقية من رحالة ومستكشفين ومنصرين غربيين على تسامح السيد سعيد وأبنائه من بعده".

ويؤكد د. تركي أن الألمان كانوا مثل بقية القوى الأوروبية يشجعون تنصير الأفارقة، فيقول: "لا بد من التأكيد على أن الألمان من جانبهم لم يغفلوا الجانب التنصيري في بسط نفوذهم على شرق إفريقيا، وكذلك في موقفهم من ثورة الشيخ بشير الحارثي.

ويكمن الموقف الألماني فيما قاله المستشار "بسمارك" تدعيما لوجهة نظره في إرسال حملة عسكرية لشرق إفريقيا بقوله: إن المسألة لا تكمن في دعم الشركة (ويقصد "شركة شرق إفريقيا الألمانية") ولكن المسألة هي دعم الحضارة والمسيحية والواجب الوطني. وتعد تلك الكلمات دليلا لا لبس فيه حول دوافع تنصيرية في الوجود والتوسع الألماني في شرق إفريقيا، كما أن رجال الإرساليات التنصيرية في مناطق النفوذ البريطاني والألماني لم يكتفوا بمحاولة تنصير الوثنيين إنما تعدّوا ذلك إلى حد دعوة العرب والمسلمين للدخول في النصرانية، وليس هذا فحسب بل نجد أن الكاثوليك الألمان عملوا جهدهم أولاً على إقناع الحكومة الألمانية، وثانياً ساهموا بجمع الأموال لإرسال حملة للقضاء على ثورة الشيخ بشير الحارثي، كما يمكن إضافة أن رجال الإرساليات التنصيرية أخذوا في تشجيع الرقيق على الهروب من ملاكهم، وكان لهذا أثره في حدوث تجاوزات، وهو أمر زاد من العداء بين الطرفين، ومع ذلك نجد أن الشيخ بشير الحارثي يظهر جانباً إنسانياً، حيث حرم على أتباعه مهاجمة مراكز الإرساليات التنصيرية المسالمة".

وكانت ثمة أسباب أخرى للاستياء وبخاصة تحكم الألمان بالجمارك وإلزام الأهالي بدفع رسوم جمركية باهظة على صادراتهم، وإدخال نظم تجارية وقوانين جديدة لم يألفها سكان الساحل الشرقي، كما "أن إدارة شركة شرق إفريقيا الألمانية حرمتهم مما كانوا يحصلون عليه من فوائد من القوافل المارة بمناطقهم، كما خسر التجار العرب والهنود أموالاً طائلة كانوا يجنونها بسبب علاقتهم التجارية، وكونهم وسيطاً بين الساحل والداخل فلا عجب في تشجيعهم للثورة ضد الوجود الألماني، وهم الذين يخشون منافسة التجار الأوروبيين لهم".

وهناك سبب آخر يستحق أشد الاهتمام ضمن ما يورد الباحث د. تركي من أسباب دعم التجار للثورة من عرب وهنود، وهو خوف هؤلاء من أن تتبنى ألمانيا سياسة محاربة الرق!

يقول د. تركي: "كان هناك تخوف من قبل بعض أصحاب المصالح من التجار والإقطاعيين العرب والهنود والأفارقة من تبني ألمانيا لسياسة محاربة الرق وتجارته، حيث يعني ذلك خسارتهم لليد العاملة في الإقطاعيات الزراعية، وكانت تجارة الرقيق تعد من الأنشطة التجارية المربحة للعديد من الأطراف في شرق إفريقيا وموردا اقتصاديا مهما ولا تقتصر ممارستها بيعا وشراء على الأفارقة والعرب وإنما الهنود والأوروبيون، ومن المعروف أن الهنود ساهموا بشكل مباشر وغير مباشر في الرق وتجارة الرقيق، ويعدون من الممولين الرئيسيين لهذه التجارة، فلا غرابة أن أصحاب المصالح تخوفوا من أن تستغل تلك السياسة لضرب مصالحهم وتحقيق أهداف استعمارية، كما فعلت بريطانيا.

 وكانت بريطانيا قد استغلت سياسة محاربة الرق وتجارة الرقيق للتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الإمارات والسلطنات بما فيها السلطنة العربية في زنجبار، وقد يكون في ذهن العرب الخوف مما حدث في سلطنة زنجبار العربية، حيث نجحت بريطانيا في كسر شوكة العرب الاقتصادية، كما كسرت شوكتهم السياسية".