«بالنسبة لبكرا شو؟»، مسرحية واقعية تلعب على وتر المال والكرامة، وتصور شرائح مختلفة من المجتمع اللبناني، لم تتغير في تصرفاتها وفي سلوكياتها، ونراها في يومياتنا، ما يؤكد أهمية المسرح الواقعي الذي اضطلع به زياد الرحباني في سبعينيات القرن العشرين وكان بعد في مقتبل شبابه وفوران موهبته.
رسم شخصيات المسرحية ببساطة بالغة، لم يتفلسف، لم يجمّل ولم يتخيّل، تطلع حواليه، لمس بنفسه اللهاث وراء لقمة العيش والثمن الباهظ الذي يمكن أن يُدفع للعيش براحة والتطلع إلى الهجرة صوب الخليج لتحقيق ثروة، رأى الناس الوصوليين والطيبين، الشعراء المتصنعين، وإذ بنماذج من هؤلاء تختال على المسرح في حركة لا تهدأ، تسير على وقع سرعة الحياة والزمن وتسديد المتطلبات المعيشية، تارة تضحك وتارة تبكي، تارة هي ضحية الظروف وتارة أخرى تصنع الظروف بيدها...صور متقطعةصحيح أن المسرحية المعروضة سينمائياً ليست واضحة من ناحية الصورة إذ صورت على شرائط Super 8، إلا أن عبقرية زياد الرحباني ظهرت جلية في المشاهد التي تتالت متسارعة، بحيث لا يخلو المسرح من الشخصيات على مدى أكثر من ساعتين، هذه الشخصيات بالذات تبكي وتضحك وتغني وترقص وتتناقش وتتبادل الآراء والأفكار وتتدافع وتتعارك...حققت المسرحية عام 1978 نجاحاً واستمر عرضها ثمانية أشهر من دون توقف، وهي الثالثة لزياد الرحباني بعد {سهرية} و{نزل السرور}، وقد اعتبر النقاد آنذاك ان {بالنسبة لبكرا شو} الأكثر حرفية لزياد الرحباني فهو كتبها وأخرجها وجسّد فيها شخصية زكريا.أما الفيلم السينمائي لمسرحية {بالنسبة لبكرا شو{، الذي يعرض راهناً في صالات العرض في بيروت، فهو عبارة عن مقاطع مسرحية صوّرتها ليال شقيقة زياد الرحباني على مراحل قبل نحو 38 عاماً، بهدف مساعدة زياد والممثلين خلال التمارين لمراقبة حركتهم على المسرح، ولم يكن مقرراً عرضها أبدا، ما يفسّر التغيير المفاجئ في الأزياء والمشاهد.وفي احد لقاءاته الصحافية في منتصف تسعينيات القرن الماضي كشف زياد الرحباني أنه يصوّر مسرحياته لمراقبة الأداء كونه مشاركاً في التمثيل وبغياب مخرج يراقب العرض ويدوّن الملاحظات، فتلقفت شركة {ام ميديا للإنتاج} الفكرة (تهدف إعادة تجميع الأعمال الثقافية اللبنانية أو المتعلّقة بلبنان، بما فيها المسرحيات والكتب والموسيقى وبعض الأعمال الخاصة التي تنتجها)، وحاولت على مدى 17 سنة إقناع زياد الرحباني بالإفراج عن الأشرطة. في 2012 وبعد إصرار وافق على تحويل اثنتين من مسرحياته إلى فيلم سينمائي: {بالنسبة لبكرا شو{ و{فيلم أميركي طويل} (يتمتع بصورة أفضل، نظراً إلى تطوّر الكاميرات) شرط ألا تؤثر التكنولوجيا الحديثة في أصالة التسجيلات.بما أن الأشرطة كانت في وضع سيئ، أرسلتها الشركة المنتجة إلى لوس انجليس حيث استغرق ترميمها ستة أشهر، وانتقلت من ثم إلى هامبورغ مدة سنتين لمعالجة الصوت، وعادت إلى بيروت لإنجاز المونتاج ووضع اللمسات الأخيرة.نظراً إلى هذا الواقع تمنت الشركة المنتجة في مستهل الفيلم من الجمهور غضّ النظر عن بعض الثغرات التي لم يكن ممكنا تفاديها، كالتغييرات المفاجئة في ملابس الممثلين والاقتطاع الطفيف الذي طال بعض المشاهد وغيرها من العوائق التقنية التي فرضتها طبيعة الأشرطة الأصلية.المال والكرامةتتمحور المسرحية حول زكريا (زياد الرحباني) وثريا (نبيلة زيتونة)، زوجان ينتقلان من القرية إلى المدينة بحثاً عن حياة أفضل لهما ولأولادهما، فيعملان في حانة في شارع الحمرا ترتادها شرائح مختلفة من المجتمع اللبناني، لكنهما يصطدمان بغلاء المعيشة، فتضطر ثريا مكرهة إلى الخروج مع الزبائن مقابل بدل مادي لتأمين مداخيل إضافية، تسمح لهما بتعليم أولادهما في مدارس خاصة واستكمال فرش منزلهما.هنا يبدأ صراع زكريا بين كرامته واضطراره للسماح لزوجته بأن تجالس الزبائن في الحانة، وينتابه الغضب في كل مرة يرى زوجته تخرج مع هذا الفرنسي أو ذاك الاسباني او البلجيكي... فتتملك المُشاهد مشاعر متناقضة بين الضحك والبكاء، فهو في لحظة يضحك من ردة فعل زكريا إزاء الواقع وفي لحظة اخرى يبكي من المرارة التي يعيشها زكريا خصوصاً عندما يخرج عن طوعه ويقرر في النهاية ارتكاب جريمة قتل للثأر لكرامته، وتنتهي المسرحية بخيبة زوجته وحزنها على النهاية التي آل إليها زوجها الملقى في السجن.مسرحيات زياد الرحباني{سهرية} (1973)، {نزل السرور} (1974)، {بالنسبة لبكرا شو؟} (1978)، {فيلم أميركي طويل} (1980)، {شي فاشل} (1983)، {بخصوص الكرامة والشعب العنيد{ (1993)، {لولا فسحة الأمل} (1994)، {الفصل الأخير} (الجزء الثالث من بخصوص الكرامة).المدرسة الرحبانيةصحيح أنه ابن العائلة الرحبانية ) والداه عاصي الرحباني وفيروز)، إلا أن زياد الرحباني خرج عن المدرسة الرحبانية ورسم لنفسه خطاً مغايراً كلياً، يقوم على نقل الواقع على المسرح بكل وجوهه من دون روتوش أو تجميل، فيما المسرح الرحباني ينقل الواقع بكل معاناته لكنه يضفي عليه جماليات تتغنى بالضيعة والطبيعة ومكونات لبنان الحلو الأخضر. هنا يكمن الفرق بين زياد وأهله. فهور رسم الواقع حتى الوجع وهم رسموا الواقع حتى الحلم.طوال ساعتين لم تهدأ حركة زكريا على المسرح، يرقص ويغني ويناقش ويطلق النكات والقفشات ويضحك من كثرة الألم، ورغم رداءة الصورة، لمس الجمهور كل مقومات شخصية زكريا، هذه الشخصية التي نلتقي بها في كل زمان ومكان، تعيش في صراع دائم محوره المال ولا تتوانى عن التفكير بعرض عمل في مطعم في الخليج على أمل الخروج من هذه الدوامة.بدورها جسدت ثريا (نبيلة زيتوني) شخصية الامرأة المسحوقة الرازحة تحت الضغوط المالية والضغوط النفسية، بفعل اضطرارها إلى مسايرة الزبائن لتسديد حاجات عائلتها. هذه الشخصية لم تتغير على مدار الزمن بل يمكن القول إن هذا النموذج يزداد في السنوات الأخيرة نظراً إلى ازدياد متطلبات المعيشة.أسامة (فايق حميصي) جسد شخصية شاعر متسكع ومتصنع يكتب كلمات يسميها شعراً، ويحاول استرضاء رجل أعمال خليجي زار الحانة، ليكسب منه المال.موسيو أنطوان (بطرس فرح)، جسد شخصية مدير الحانة المهووس بالمال، والساعي إلى كسب رضا صاحب الحانة عبر مراقبة المصاريف والرواتب.رامز (جوزيف صقر غيبه الموت منذ سنوات طويلة)، كانت إطلالته محببة لا سيما انه جسّد شخصية الرجل الجبلي الطيب بالفطرة، البسيط بتصرفاته وبلباسه الجبلي، فغنى {اسمع يا رضا{ و{عاهدير البوسطة}(كلمات زياد الرحباني وألحانه)، فعادت صورته لترتسم في الأذهان بعفويته وخفة روحه. نجيب (رفيق نجم) جسد شخصية الطاهي الذي لا يعجبه سلوك زكريا وزوجته، ويبدو عصبياً وهو يتكلم على الهاتف مع صديقته، ويغتنم أي فرصة لتأنيبهما.رضا (سامي حواط) كان آنذاك في بداياته، وجسد شخصية صبي الحانة المطيع لزكريا والمطالب بحقوقه من خلاله.الخواجه عدنان (غازاروس الطونيان) جسد شخصية رأسمالي وصولي ينصب شباكه حول رجل الأعمال الخليجي (محمد كلش) الذي يريد فتح مطعم {بيبرم{ في الخليج، ويسترضيه ليسلمه إدارته، ويواجه مطالبة زكريا له برفع راتبه بإيهامه بأنه سيسلمه إدارة هذا المطعم الذي {يبرم}.{بالنسبة لبكرا شو{ رغم كل ما يشوب عرضها السينمائي من ثغرات إلا أنها أعادت صورة المسرح اللبناني في السبعينيات وكان رائداً آنذاك، وعرّفت الشباب على عبقرية زياد الرحباني الذي صنع في هذه المسرحية عالماً كاملا نبض بكل مقومات المسرح الحديث وعرف كيف ينقل الحياة بحلوها ومرها بالمواقف أكثر منه بالكلمات الطنانة الرنانة.
توابل
«بالنسبة لبكرا شو؟» لزياد الرحباني في السينما سخرية من مرارة لم يبدلها الزمن
01-02-2016