نحو انفراج سياسي
الأنظمة السياسية التي لا تتطور تُعيد إنتاج مشاكلها بأشكال وألوان مختلفة، وإن المعادلة الصفرية معادلة فاشلة في العمل السياسي الحقيقي، ولا بد من مبادرة انفراج سياسي من السلطة السياسية تخفف من حدة الاحتقان السياسي الحالي، وتُمهّد الطريق لتوافقات سياسية جديدة تتطلبها المرحلة الحرجة التي نمر فيها حالياً.
لا يمكن لأي شخص موضوعي المجادلة بأن المعادلة السياسية الحالية التي ترتبت على انفراد الحكومة بتعديل النظام الانتخابي، والحديث هنا ليس عن عدد الأصوات بل عن الطريقة التي تمت بها التعديلات، هي معادلة فاشلة، وتكلفتها باهظة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فقد أدت إلى تراجعنا الديمقراطي، وأخرجت الصراع السياسي من قنواته الطبيعية المعتادة، كما أفقدت المؤسسة الدستورية (مجلس الأمة) دورها الرقابي (التشريعات تأتي في معظمها من الحكومة)، فحولتها إلى ما يشبه الجهاز الحكومي، أي أن السلطة التنفيذية تغولت على السلطة التشريعية.أضف إلى ذلك أن المعادلة السياسية الحالية زادت بشكل غير مسبوق من حالة التشظي الاجتماعي، والاستقطابات الفئوية والطائفية التي زعمت مبررات "التعديل" وحيثياته أنها ستقضي عليها، أما الخطاب السياسي الذي زعمت الحكومة أن التعديلات سترفع من مستواه وتجعله خطاباً سياسياً راقياً يليق بمستوى ممثلي الأمة فقد أثبتت الأيام أنه لم يتطور البتة، بل يتراجع عما كان عليه من قبل، ناهيك عن انخفاض التمثيل النسبي للناخبين في المناطق الانتخابية المختلفة، حيث قلّت بشكل ملحوظ نسبة تمثيل عضو المجلس للناخبين (وصلت في بعض الدوائر إلى 0.5% فقط)! وعلى الجانب الآخر فإن "المعارضة" لم تكن معارضة سياسية مُنظّمة ولها برامج واضحة، كما هي الحال في الدول التي تكون فيها تنظيمات سياسية مُشهرة، فالعمل السياسي هنا غير مُشهر وغير مُنظّم على أسس مدنية ديمقراطية وبرامج وطنية، فلا يُعرف، في أحيان كثيرة، مَن يُمثل مَن، بل يبرز دور الزعامات الفردية والآراء الشخصية بدلاً من دور التنظيمات السياسية ذات البرامج المُعلنة التي تُحاسب على أساسها، لذا أخذ الاحتجاج على الانفراد بتعديل النظام الانتخابي، باعتباره حجر الأساس في أي نظام ديمقراطي، طابع الاحتجاج الشعبي العام الذي لا يمكن لأحد أن يدعي تمثيله بشكل كامل. وقد ارتكبت الحركة الشعبية "المعارضة" بعض الأخطاء نتيجة عدم تنظيم العمل السياسي وقلة الخبرة السياسية لدى معظم من خرج للساحات العامة محتجاً ورافضاً قرار الحكومة، وأيضاً نتيجة لحالة الاندفاع العفوي لبعض الشباب الوطني المخلص والمتحمس، خصوصاً أن تلك الفترة كانت فترة ما يُسمىّ "الحُمى الثورية" التي تنتج عادة أثناء الثورات والانتفاضات الشعبية وبعدها مباشرة.وغنيّ عن البيان أن فشل المعادلة السياسية ذاتها في تطوير نظامنا الديمقراطي وتفعيل العمل البرلماني، بصرف النظر عن نسبة المشاركة في العملية الانتخابية التي لم تعد مجدية في الوضع الحالي مهما بلغت، قد انعكس بشكل سلبي على الوضع العام الداخلي في ظل ظروف إقليمية ودولية مضطربة نحتاج فيها، أكثر ما نحتاج، إلى تماسك الجبهة الداخلية وقوتها. وإذا ما أخذنا في عين الاعتبار أن الأنظمة السياسية التي لا تتطور تُعيد إنتاج مشاكلها بأشكال وألوان مختلفة، وأن المعادلة الصفرية معادلة فاشلة في العمل السياسي الحقيقي فإنه لا بد من مبادرة انفراج سياسي من السُلطة السياسية تخفف من حدة الاحتقان السياسي الحالي، وتُمهّد الطريق لتوافقات سياسية جديدة تتطلبها المرحلة الحرجة التي نمر فيها حالياً. وتتمثل المبادرة، مثلما سبق أن ذكرنا، في إطلاق سراح السجناء السياسيين وأصحاب الرأي، وإعادة شهادات المواطنة "الجناسي" التي سُحبت أو فُقدت أو أُسقطت لأسباب سياسية، ثم طرح مشروع سياسي نهضوي جديد ملتزم بالدستور ويتضمن الاعتراف بأخطاء المرحلة السابقة، ثم يحدد خطوات عملية لاستكمال بناء دولة عصرية وتطوير الحياة السياسية والديمقراطية، بحيث يتشكل حوله توافق سياسي وشعبي جديد يجعل الصراع السياسي يأخذ مجراه الطبيعي كي نستطيع التقدم خطوات للأمام بدلاً من حالة المراوحة السياسية الحالية المُكلفة على المستويات كافة.