إني أتعافى
يحدث لأي إنسان أن يكون عرضة لكربة من كربات الحياة، سواء في صحته أو أهله أو عمله أو مصدر رزقه. وحين يحدث ذلك عادة ما تُستنفَر لديه أجراس الدفاع عن الذات، فينتفض لمعالجة الخلل أو اتقائه ما وسعته الحيلة. ولكننا في رواية "إني أتعافى" لديفيد فوينكينوس، الصادرة عن المجلس الوطني ضمن سلسلة إبداعات، نرى بطلها يتصرف عكس ذلك. تبدأ مشاكله بألم مزمن في الظهر، ثم تتصاعد نحو إشكالات وصراعات في العمل تنتهي بتسريحه، ثم تتفاقم المسألة حين تطلب زوجته الطلاق وحين تتقطّع السبل بينه وبين ولديه. وأخيراً يجد نفسه وحيداً ومريضاً ومفلساً وبلا مأوى بعد أن تكالبت عليه الهموم من كل صوب. وهو في رحلة الانحدار هذه لا يكفّ عن فتح المزيد من الجروح القديمة والجديدة كتأملاته حول علاقته المتحفظة بابنته، أو سوء معاملة والده له والحطّ من شأنه منذ أن كان طفلاً، أو استعادة بعض خيبات الأمل برفاق الطفولة... إلخ. وهكذا كان بطل الرواية يغوص شيئاً فشيئاً في مستنقع اليأس والاستسلام مدفوعاً بآلام ظهره المزمنة التي لم تظهر الفحوصات الطبية سبباً عضوياً لها!
ويبدو أن التسليم التام وعدم المقاومة كان هو الموقف الأوحد، الذي لم يترجم نظرة البطل لمحن الحياة وكيفية معايشتها فقط، وإنما دفعه إلى المضي في مشوار العذاب حتى نقطة اللاعودة. فها هو يقبل بالانفصال السريع السلس عن زوجته دون جلبة أو جدال. وها هو يخرج من منزل الأسرة دون وجهة معلومة أو مقصد. وها هو يتنقل من مشفى إلى عيادة إلى محلل نفسي دون هدى، ثم ها هو يفتح مكبوتات غضبه بوجه والديه دون رفق أو ندم، بل ها هو يتوجه إلى مسؤوله في العمل الذي كان سبباً في تسريحه، فيباشر ضربه ضرباً مبرحاً وتلقينه درساً لن ينساه. وبذلك اكتملت لديه دائرة الفجيعة وهو يرى نفسه تحت أنقاض عالمه المنهار. في إحدى لقاءاته الصحافية، قال المؤلف وهو بصدد التعليق على تأثير الرواية في القرّاء: "إن أناساً قالوا لي إنهم بكوا وهم يقرأون الرواية". وذلك ليس مستغرباً في عصر كثرت فيه الضغوطات والقلق والتسابق، وبات أمر الموازنة في متطلبات الحياة والعلاقات الإنسانية يشكل عبئاً على كاهل الإنسان، الذي رغم الانفجار المعلوماتي والتقني ظل مسحوقاً تحت وطأة الوحدة والغربة النفسية، ومطالَباً بمواصلة اللهاث من أجل إحراز المزيد من المكاسب مادياً ومعنوياً. إن هذا اللون من المعالجة لمشكلات العصر يمسّ ولا شك قطاعاً كبيراً من الناس المنهَكين، الذين مثلهم مثل بطل الرواية قرروا أن يكفّوا عن مصارعة ظروفهم وأن يدعوا المعبد ينهار فوق رؤوسهم دون مقاومة. بيد أن المتابع لسير الأحداث في الرواية وما آلت إليه من انفراجات مذهلة، ربما تداعبه الأحلام المستحيلة في أن تؤول مصائر "المعتّرين" وسيّئي الحظ إلى ما آلت إليه ظروف بطل الرواية. وبدا أن مفتاح الانفراج حين تصل الأزمات إلى قممها الشاهقة هو التسليم ثم التسليم ولا شيء غيره، أو كما قال الشاعر وهو يجد نفسه بلا حول ولا قوة أمام أحجية المقادير:دع الأيام تفعل ما تشاءُ / وطِبْ نفساً إذا حكم القضاءُ ولعل اختيار المؤلف للانفراجات المذهلة التي حدثت لبطل روايته هو من باب رفع سقف التفاؤل في عالم محبِط وقاحل. فقد اختار لبطله أن ينهض حظه من عثراته دون جهد أو مشقة، وبعامل وحيد هو عامل المصادفة المحضة! فبالمصادفة يقيم في فندق بائس كان بوابته إلى مشروع العمر في مجال الترميم والديكور، وبالمصادفة يلتقي حبَّ حياته في غرفة انتظار في عيادة لتكون شريكة حياته ومشروعه. ثم تتوالى البركات فيتصالح مع والديه وولديه وزوجته السابقة، ويكون خاتمة مطاف ضربة الحظ شفاؤه التام من آلام الظهر التي كانت نتيجة حتمية لانقشاع مشاكل حياته جملة واحدة.يبدو أن هذا اللون من القصّ حول إشكالات الحياة الراهنة بأسلوب مباشر ومبسط بات يجد رواجاً لا في المشهد الأدبي الفرنسي فقط، حيث تنتمي الرواية والراوي، وإنما على نطاق العالم، وليس أدل على ذلك من كثرة اللغات التي تُرجمت إليها روايات المؤلف، والتي نيّفت في بعض أمثلتها على ثلاثين لغة حية، كما ورد في مقدمة المترجم للرواية. ولم يبقَ إلا أن نشكر المجلس الوطني لعنايته بإعداد هذه الترجمة لرواية "إني أتعافى" إلى العربية.