مِحْمَل الفنون!

نشر في 24-03-2016
آخر تحديث 24-03-2016 | 00:00
 مسفر الدوسري آن "لمحمل" الفنون أن يرتمي بحضن مرفئه الأخير، آن له أن يطوي أشرعته إلى الأبد، وأن يلوّح لزرقة البحر وملحه تلويحة أخيرة ليغرق البحر في فيض دموعه، ويقف الموج منتصباً دقيقة حداد.

لأكثر من أربعين عاماً لم يكفّ ذلك "المحمل" عن الإبحار والسفر، يقف في بعض الموانئ فقط للتزود بالوقود الكافي لمحطته التالية ويستأنف الإبحار على يقين بأنه لم يخلق لشيء سوى ذلك، كان ذلك هو اليقين الذي يملأ رئة أشرعته بالريح، ويشدّ من عزيمة صواريه، ويمنح مجاديفه القوة ويهدي بوصلته إلى نداء الاتجهات الآمنة، أكثر من أربعين عاماً وهذا المحمل يطوف البحار، يتخطى الأمواج العظيمة بحكمة نغم، ويتجاوز الرياح العاتية بسلاسة "يامال"، يجمع بخبرة "طواش" من اللآلئ أجملها لينظم عقدا تخلده الأغاني، أكثر من أربعين عاماً و"نهّام" ذلك المحمل تجتمع حول صوته عندما يغني بعرض البحر الأسماك الملونة وقناديل البحر والدلافين وتنمو في محيط حنجرته الشعب المرجانية والأعشاب وتتكاثر حولها "الهيرات" وشباك الصيادين وإضاءات مصابيحهم الليلية، وعلى مسافة غير بعيدة من مشارف صوت ذلك "النهّام" تنزل النجوم مساء لتخضب جدائلها "بورس" أغانيه وإذا ما تجلّت طرباً أصبحت جوقة تردد وراء ذلك الصوت: "يا ليلة دانه لدان"، أكثر من أربعين عاماً لم تبدّل النجوم مجلسها في حضرة صوت ذلك الصوت ولم تخلف لجماله موعداً.

منذ أيام قليلة فقط رسي ذلك "المحمل" على مرفئه الأخير وترجّل من على ظهره "النهام" بلا أغنية واحدة معه، وبلا حبة لؤلؤ، فقد كانت تكفيه حبات اللؤلؤ التي فاضت من مُقل محبّيه الذين رافقوه في تطوافه الدائم بالبحار وهم على اليابسة، يفترشون كل ما يصلهم من الأغاني المنسوجة من خيوط صوته، ويستضيئون في "سمراتهم" بسراج مواويله المنيرة حتى الصباح، ترجّل النهام وبقي "المحمل" محمّلاً بكل الكنوز التي تم جمعها عندما كان يجوب البحار لينشد أغانيه في قلب الماء ويستثير ملوحته بعذوبة صوته، إذ كان يرمي في كل بقعة ملح قطعة سكّر لينتشي الماء ويثمل الملح، كنوز من الشام وثانية من العراق وأخرى من مصر وغيرها من الخليج، كلها شاهد على ثراء ذلك "المحمل" وعِظَم قيمته، زخر وامتلأ صدره بها ولم يكن أنانيا بها قط، بل شاركنا جمالها وأهداها لنا دون عناء منّا ودونما تحمّل وعثاء السفر، وضعها بين أيدينا لتتزين قلوبنا بها، ولنهدي منها ما نشاء لمن نشاء، يوزّع عطاياه لنا دون أن يُسأل لنهَبَها نحن لمن نريد دون أن يَسأل، وكأنما هو رسول العطاء، ذلك هو الفنان الكبير صالح الحريبي أحد أعمدة الفن الأصيل، الذين شدّوا خيمة الطرب الأصيل بحبالهم الصوتية وكانت بمثابة الأوتاد لها.

رحمك الله يا أبا أحمد، نم قرير العين فقد وفيت أمانتك، وشقيت لتترك لنا كنزاً لن يصيبنا الفقر من بعده، فأنت لم تكن مجرّد فنان، إنما كنت "محمل" الفنون.

back to top