تتردد مؤخراً مقولة "منو يقرا جرايد..." بكثرة بين معظم الفئات السنية، في الدواوين والمنتديات العامة، وكأنها مدعاة للفخر أو التفاخر بين الأمم، في حين نرى في الخارج – دول العالم الأول- الشباب في مرحلة العشرينيات من العمر وما فوق يحملون الصحف في المنتزهات ومحطات المترو وعلى متن الحافلات والقطارات ومعظم الأماكن العامة، رغم الوسائط التكنولوجية المتوفرة لديهم، بل إن بعض المجلات والصحف التي أوقفت طبعاتها الورقية عادت لها مرة أخرى.

Ad

يحكي لي صديق أنه التقى في إجازة الصيف الماضي مسؤولاً له مكانته في إدارة شؤون البلد، وأثناء تبادل الحديث معه ذكر له تقريراً عن أوضاع المنطقة والعراق نشرته إحدى الصحف المحلية منذ فترة، فرد المسؤول: "منو الحين يقرا جرايد!"، صديقي صدم كما كانت حالتي عندما نقل لي ذلك، وتساءلت كيف يعلم هذا المسؤول عن توجهات الرأي العام للمواطنين، وهو في منصبه لخدمتهم؟ وأهم القضايا المطروحة في البلد؟ فهل يجوز أن تكون "هذرة التويتر" ورسائل "الواتساب"، التي لا تحكمها أي معايير أو ضوابط للمصداقية والمهنية، هي وسيلة اطلاعه على الرأي العام وقضايا الدولة؟! خاصة أن طبيعة موقعه المدني لا تمكنه من أن يطلع على تقارير أمنية ترصد أحداث الديرة.

ظاهرة "منو يقرا جرايد" هي مؤشر جديد على ردة في الوعي العام، ومؤشر على الاعتماد الكلي في المعرفة على وسائل التواصل الاجتماعي غير المنضبطة والمملوءة في عالمنا العربي بالمشاحنات العرقية والفئوية والطائفية وحتى المناطقية، فلا يمكن أن يصنع الفضاء المفتوح "للحكي" بدون ضوابط رأياً عاماً محترماً وعلمياً يخدم القضايا العامة التي تهم حاضر ومستقبل المجتمعات، فها هي الصحف الأيسلندية تسقط رئيس الوزراء هناك بعد حملة لها في أعقاب نشر وثائق بنما، كما تحاول أن تفعل الآن الصحف الإنكليزية مع ديفيد كاميرون رئيس الحكومة البريطانية لنفس السبب.

لذا فإن ترديد العامة وبعض أصحاب القرار ومن يعاونهم ومن تحتهم في هرم إدارة الشأن العام مقولة "منو يقرا جرايد" ستزيد من انفصام المواطن عن قضاياه الوطنية والمعيشية، وتجعل المسؤول يعيش في عالم افتراضي بعيد عن الواقع، فمازالت المجتمعات الحية والمتقدمة فيها صحافيوها الذين يتقصون الخبر ويقدمونه للعامة وفقاً لمعايير مهنية معلومة ومسؤولية قانونية - كشف وثائق بنما نتيجة عمل للصحافة الاستقصائية- في حين يعكس كتابها ومحللوها الرأي العام وتوجهاته، وهو ما يصنع الفارق في التنافس في الرؤى والأفكار التي تدفع تلك المجتمعات إلى الأمام دائماً.