لعل الشيء الوحيد المدهش لردة الفعل الشعبية التي طغت على السياسة في العديد من الديمقراطيات المتقدمة هو طول أمد هذا البلاء، فقبل عقدين من الزمن كان من السهل التنبؤ بأن السياسيين الرئيسيين "ليسوا على استعداد لتقديم العلاجات اللازمة لمعضلة انعدام الأمن وعدم المساواة في هذا العصر المليء بالعولمة المفرطة، والذي يخلق فضاءات سياسية ملائمة للغوغائيين الذين يقترحون توفير حلول سهلة، ففي الماضي كان روس بيرو وباتريك بوكانان، واليوم يوجد دونالد ترامب ومارين لوبان، وغيرهم.
إن التاريخ لا يعيد نفسه تماما، ومع ذلك تبقى دروسه مهمة، إذ ينبغي التذكير أن عصر العولمة الأول، الذي بلغ ذروته في العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى، أنتج في نهاية المطاف صدى سياسيا أكثر شدة.لقد تم تلخيص الأدلة التاريخية بشكل جيد من زميلي من هارفارد جيفري فريدن، ففي أوج معيار الذهب، يقول فريدن، كانت الجهات الفاعلة السياسية الرئيسة تقلل من شأن الإصلاح الاجتماعي والهوية الوطنية لأنها أعطت الأولوية للعلاقات الاقتصادية الدولية. واتخذ الرد واحدا من شكلين مميتين في فترة ما بين الحربين: اختار الاشتراكيون والشيوعيون الإصلاح الاجتماعي، في حين اختار الفاشيون التثبيت الوطني، وقد ذهب كلا المسارين بعيدا عن العولمة متجهين نحو الانغلاق الاقتصادي (وأبعد من ذلك بكثير).إن رد الفعل العنيف الذي يحدث اليوم لم يذهب إلى حد بعيد حتى الآن، ورغم أن اضطرابات الركود الكبير وأزمة اليورو مكلفة فإن أهميتها ضئيلة بالمقارنة مع أزمة الكساد العظيم (سنة 1929)، فقد بنت الديمقراطيات المتقدمة، واحتفظت (على الرغم من الانتكاسات الأخيرة)، بشبكات واسعة للضمان الاجتماعي في شكل التأمين ضد البطالة والمعاشات التقاعدية واستحقاقات الأسرة، ولدى اقتصاد العالم اليوم مؤسسات دولية وظيفية، مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، التي كان يفتقر إليها قبل الحرب العالمية الثانية. أخيرا وليس آخرا، لقد فقدت الحركات السياسية المتطرفة مثل الفاشية والشيوعية مصداقيتها إلى حد كبير. ومع ذلك، فإن الصراعات بين اقتصادات العولمة المفرطة والتماسك الاجتماعي هي مسألة حقيقية لا ينبغي للنخب السياسية السائدة تجاهلها، وكما قلت في كتابي عام 1997 تحت عنوان "إلى أي حد وصلت العولمة؟" إن تدويل أسواق السلع والخدمات ورؤوس الأموال يؤدي إلى بناء حاجز بين المجموعات المهنية العالمية الماهرة القادرة على الاستفادة منه وبين بقية المجتمع.وقد تفاقم وانقسم المشهد السياسي في هذه العملية إلى شقين: شق الهوية، الذي يدور حول القومية أو العرق، أو الدين، وشق الدخل الذي يهم الطبقة الاجتماعية، ويستمد الشعبويون جاذبيتهم من أحد هذين القسمين، وينخرط الشعبويون اليمينيون مثل ترامب في سياسة الهوية، أما الشعبويون اليساريون مثل بيرني ساندرز فهم يؤكدون الفجوة بين الأغنياء والفقراء.وفي كلتا الحالتين يتم توجيه الغضب نحو "الآخر" بشكل واضح، ولا تكاد نفقاتك تستطيع تغطيته، إن الصينيين هم من سرقوا فرص عملك، فهل أنتم مستاؤون من الجريمة؟ والمكسيكيون وغيرهم من المهاجرين هم من جلبوا حرب العصابات إلى داخل البلاد، ولماذا الإرهاب؟ بسبب المسلمين، بطبيعة الحال. وماذا عن الفساد السياسي؟ ماذا تتوقع عندما تقوم البنوك الكبرى بتمويل نظامنا السياسي؟ على عكس النخب السياسية السائدة، يشير الشعبويون بسهولة إلى الجناة المسؤولين عن آفات الشعوب.وبطبيعة الحال فضّل السياسيون السائدون خطاب التسوية أو المصالحة لأنهم بقوا في سدة الحكم كل هذا الوقت، لكنهم لم يحركوا ساكنا نتيجة خطابهم الذي ينم أساسا عن التقاعس والعجز.ويضع هذا الخطاب كل اللوم على القوى التكنولوجية الخارجة عن السيطرة لأنها ساهمت في ركود الأجور وارتفاع عدم المساواة، ويَنظر إلى العولمة والقواعد التي تحافظ عليها باعتبارها شيئا ضروريا ولا مفر منه، فالعلاج الذي يقدمه، عبارة عن الاستثمار في التعليم والمهارات، يَعِد بقليل من المكافآت الفورية كما سيستغرق سنوات طويلة من الآن قبل الاستفادة منه، وذلك في أحسن الأحوال.فالاقتصاد العالمي اليوم هو في الواقع نتاج للقرارات الواضحة التي اعتمدتها الحكومات في الماضي، وتمثل الخيار في عدم التوقف عند الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة (GATT)، وبناء منظمة عالمية للتجارة أكثر طموحا وتدخلا (WTO). وفي السياق نفسه سيكون خيارا بشأن تصديق الصفقات التجارية الضخمة في المستقبل مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ وشراكة التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلسي.وقد كان هدف هذا الاختيار الحكومي التخفيف من قوانين التمويل من أجل الحصول على حرية حركة رؤوس الأموال عبر الحدود، تماما كما كان اختيار الحفاظ على هذه السياسات سليما إلى حد كبير، على الرغم من الأزمة المالية العالمية الواسعة النطاق، وكما يذكرنا أنتوني أتكينسون في كتابه البارع حول عدم المساواة، حتى التغير التكنولوجي ليس في مأمن من الوكالة الحكومية: هناك عمل كثير يمكن لواضعي السياسات القيام به للتأثير في اتجاه التغير التكنولوجي وضمان أنه سيروم خلق فرص الشغل وتحقيق عدالة أكبر.ويمنح الشعبويون صوتا للمستبعدين الغاضبين، كما يقدمون رواية كبيرة وملموسة وحلولا مضللة وخطيرة في أغلب الأحيان، ولن يستعيد السياسيون السائدون مصداقيتهم المفقودة حتى يقوموا بدورهم بتقديم حلول جدية من شأنها توفير شروط الأمل في المستقبل، كما لا يجدر بهم الاختباء وراء التكنولوجيا أو العولمة السريعة، وعليهم أن يتسموا بالجرأة اللازمة للقيام بإصلاحات واسعة النطاق بالطريقة نفسها التي يدار بها الاقتصاد المحلي والعالمي.وإذا كان درس واحد من التاريخ يشير إلى خطر العولمة، فالدرس الآخر يتعلق بتطويع الرأسمالية، فقد أعطت هذه الخطة الاقتصادية الجديدة ودولة الرفاهية والعولمة المراقَبَة (في ظل نظام بريتون وودز) في نهاية المطاف للمجتمعات الموجهة نحو السوق فرصة جديدة للحياة وطفرة ما بعد الحرب، ولم يكن الترقيع والتعديل الطفيف للسياسات الحالية هو السبب في إنتاج هذه الإنجازات، بل الهندسة المؤسساتية الجذرية هي التي كانت السبب الرئيس، فليقم السياسيون المعتدلون بتدوين كل هذه الأمور.* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية، ومؤلف كتاب "قواعد الاقتصاد: الحق والباطل من العلم الكئيب".«بروجيكت سنديكيت «بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
سياسة الغضب
16-03-2016