وبالمقارنة ما الذي نجده بجانبنا؟

نشر في 17-01-2016
آخر تحديث 17-01-2016 | 00:00
 فوزي كريم  حكايةُ العَرض النقدي للكتب الجديدة، أو مقدار اتساعه، في الصحافة الثقافية الغربية قد تكون مجهولةً لدى القارئ والمثقف العربي. فكلُّ صحيفة لها صفحتُها في عرض الكتب الجديدة. وكل مجلات الأدب التي تُدعى Review، إنما هي مجلاتٌ خالصة الانصراف إلى هذه العروض النقدية. أما مجلاتُ الشعر فصفحاتُ عروضها النقدية لها مكانةٌ خاصة. وهي ظاهرةٌ شائعةٌ وواسعة بفعل شعبيتها بين المثقفين، ومثقفي الأدب خاصة. يُقبل عليها القراءُ كلَّ يوم، أو كلَّ أسبوع، أو كلَّ شهر، أو كلَّ فصل، برغبة من يريدُ أن يعرفَ كتابه المُفضّل، وبمتعةِ من يحب المقالةَ النقدية لذاتها. وهذه النوازعُ لدى القراء مكفولةٌ بثقة عالية من قبل صحافة الأدب، لأنها تنتخب كتّابَها لهم من داخل حقول اختصاصهم. فكتاب جديد عن الشاعر تيد هيوز، يتكفل به دارس متخصص لهيوز. وكتاب عن لاوتسي، يراجعه متخصص في الشعر الصيني. وعن الشعر العربي الجاهلي ينصرف إليه مستشرق في هذا الحقل... وهكذا. إن غنى المادة النقدية، وحيويتها تأسر قارئها، وتضمنُ لها ملاحقتَه الملحّةَ حدّ الإدمان. ولعلي أحد المدمنين، الذين نمتْ ذائقتهم النقدية على حبّ "المقالة النقدية"، و"المقالة الأدبية" بصورة عامة.

   إن مقارنةَ هذا الحقل الصحافي الصغير من حقولِ الثقافة في الغرب، بحقلِ صحافة عروض الكتب لدينا، ليلقي الضوء على عمقِ الهوّة التي تفصل بين ثقافةِ الغرب، وبين ما نسميه ثقافتنا على سبيل المجاز لا الحقيقة. وبالرغم من أن هذه الهوة بين وجودين أصبحتْ أكثرَ من بديهةٍ في وعينا الشعبي العام، فإن الطرفَ الذي لم يتوقفْ عن سترها بحجابِ المزاعم إنما هو طرفُ مثقف الأدب والفن فينا. فهو وحده الذي لا يكف عن محاكاة عمياء لقديم الغرب وجديده، بهمة من يفتقدُ إلى هاجس المسؤولية، ورهافةِ الضمير.

  الصحافةُ الثقافيةُ في الغرب، أو العالمِ المتحضر في الغرب والشرق عامة، هي عمادُ التواصل بين طرفي المبدعين وقرائهم أو متذوقيهم. والثقةُ التي يتمتع بها الكاتب لا توفرُ بالضرورة رضا قارئه، لذلك تجدُ في كلِّ صحيفةٍ ومجلةٍ حقلاً للرسائل يَعرض فيها الجميعُ خلافاتِهم، ببالغ الرويّةِ واللياقة. ولقد اتسع هذا الحقلُ بصورة تفوقُ الخيال داخل نشاط المواقع الثقافية في الإنترنت. وبالرغم من أن مشهداً كهذه يبدو، مقارنةً بمشهدنا، أشبه بيوتوبيا لا تمس الأرض، فإنه مشهدٌ حي لا يخلو من شوائب الواقع. وهو طبعُ الكائن الإنساني المورط بخطاياه، مهما أخذتْ به يدُ التطور والتحضر.

  وبالمقارنة، ما الذي نجده بجانبنا؟: الكاتب الجيد، أو الذي يعتقد ذلك، يتعالى عن عرضِ كتابٍ في الصحافة، وخاصةً عن كاتب لا يعرفه شخصياً. وحتى إذا عرفه شخصياً، فيجب أن يعرف "مكانته" البارزة، لا موهبته، في "دائرة الأدب" الرسمية المتفق عليها في وسائل الإعلام، والمهرجان، والجوائز. وهي عمليةُ إطفاء متعمدةٌ وخطيرةٌ للمواهب الكبيرة، ولمغامرة اكتشافها، ومن ثم عملية إطفاء متعمدة وخطيرة للاستنارة المُنتظرة من فاعلية النقد، لأن النقدَ في معظمه اليوم يعتمد

"النظرية المترجمة" التي نُقلت إلى عربية لا تحتمل وطأتها الغربية المُثقلة بالموروث النقدي، تماماً كاعتماد لغة "الشعر المترجم" لدى الشعراء.

   لم يبقَ لدى صحافتنا الثقافية، بشأن عروض الكتب، إلا جاهزية الكتّاب السريعي الاستجابة، الرخيصي الثمن. يتمتع هؤلاء بما يتمتع به الكتّاب السابقون من فقدان لهاجس المسؤولية ورهافة الضمير. وفي أحيان كثيرة تستعين بـ"الكَتَبة" الذين يطمعون باحتلال ولو كان ركنا صغيرا، حتى بدون مكافأة. يلقون نظرة على مقدمة الكتاب، أو كلمة الغلاف الأخير. وقد يعمدون دون قراءة إلى نسخ فقرة أو فقرتين من الكتاب، يحيطونها ببضعة جمل محشوة بالمصطلحات المترجمة، يحاكون بها نقاد ومثقفي "الدائرة الرسمية".

 كلُّ هذا يتم عن رضا وقناعة بأننا لا نملك غيرَ هذا الزاد، ولا نستحق إلا إياه. وهما رضا وقناعة تتداخل شبكة خيوطهما مع شِباك الاندفاعت المَرَضية الدينية، والطائفية، والعقائدية السياسة، وتشوّهات ثقافة الحداثة ومثقفيها، وفساد أنظمة الحكم. تتداخل في هارموني لا تليق موسيقاه إلا بأذن ساكن الجحيم.

back to top