«سوق النفط» يفاقم خلافات العراقيين
لا شيء يشغل الطبقة السياسية الشيعية هذه الأيام سوى الإجماع على ضرورة إحداث تغيير حكومي، والطريف في الأمر أن المجموعات السنية والكردية لا تخوض في هذا النقاش كثيراً كما كانت تفعل في السابق حين يتعلق الأمر بحكومة بغداد، ما يعكس حجم الانزلاق نحو التقسيم أو التفكك في هذا البلد الغائص في الحروب منذ أربعة عقود تقريباً، ضيّعت عليه كل فرص التنمية والاستقرار.لكن طبيعة النقاشات بين القوى الشيعية تقول حقيقة كبيرة: لا حل سحرياً للعجز المالي الرهيب والمباغت، الذي قد يجعل تأمين مرتبات الموظفين أمراً بالغ الصعوبة خلال شهرين أو ثلاثة، ولابد من أن ينشغل الجمهور بقضية الإصلاحات الإدارية هذه المرة، لأن إصلاح السياسة بات في خبر كان بعد أن تجمدت الحلول السياسية انتظاراً لما ستؤول إليه أحوال المحيط الإقليمي برمته.
وبادر حيدر العبادي رئيس الحكومة إلى محاولة إلقاء اللوم على شركائه في الائتلاف الحكومي، وخاطب الشعب منادياً بتعديل وزاري يأتي بالتكنوقراط وحكومة الخبراء ذوي الاختصاص، مما جعل جزءاً من الجمهور ينحاز إلى هذه الحكاية، لكن دهاة الساسة سارعوا عبر وسائل الإعلام إلى التذكير بأن نوري المالكي رئيس الحكومة السابق، سبق أن لجأ إلى هذا الخيار حين انسحب الوزراء السنّة ووزراء مقتدى الصدر من التشكيلة عام ٢٠٠٧، فقام المالكي بتعيين بحار كوزير للنقل، ومهندس كهرباء لوزارتها، وآخر نفطي للبترول، وجاء بطبيب إلى الصحة..الخ، لكنهم لم ينجحوا في ترميم النظام الإداري المنهار منذ التسعينيات، وتحولوا إلى أصوات سياسية مؤيدة لنهج المالكي الذي اعتمد التفرد في صناعة القرارات، وأتى على الحد الأدنى من التوافق الذي كان حافظاً لبعض الاستقرار في العراق. وبات من الواضح أن أي خطوة للعبادي في هذا الإطار ستواجه باعتراضات من التاريخ والوقائع السياسية القائمة، وسيتهم بأنه يحاول التهرب من مسؤولياته بإلقاء اللوم على الأحزاب، لكن الصالونات السياسية أخذت تناقش موضوعاً أعمق يقوم على تساؤل: هل نستطيع إنقاذ البلاد دون مساعدة علمية ومالية وسياسية من العالم المتقدم؟وقد كانت مناسبة هذا الاستفهام، هو أن العبادي عاد من جولة أوروبية وهو سعيد بقرض من ألمانيا لم يتجاوز نصف مليار يورو، ولا يكاد يسد 5 في المئة من العجز الكلي.لكن التساؤل حول مدى إمكانية الحصول على مساعدة دولية جادة، يمس حقيقة أن العراق لم يتمكن من بناء ثقة كافية مع محيطه الإقليمي والدولي، وظلت الشركات عازفة عن الدخول الفاعل للاقتصاد العراقي الذي تتقاسمه مافيات حزبية وطائفية تتعامل بلا خبرة مع عمالقة الاقتصاد الدولي الذين يأتون إلى بغداد ويسارعون لمغادرتها بمجرد الاطلاع على قوانين الإدارة والمال والصراع، سواء كان الوزراء من التكنوقراط أم من ممثلي القوى الحزبية والجماعات القومية والدينية، بل إن تجربة كردستان التي كانت أكثر تعقلاً في تعاملها مع مراكز النفوذ في الغرب، هي الأخرى تعاني طريقاً مسدوداً وصعباً سياسياً واقتصادياً، وباتت أبرز ضحية في العالم لانهيار أسواق البترول.ويتفاقم الوضع أكثر مع نفوذ الميليشيات المتصاعد في العراق، وراحت الشكاوى تزداد من أتاوات باهظة يأخذها المسلحون الشيعة من شركات عربية وأجنبية تستثمر في البلاد، وسط موجة من هروب رؤوس الأموال والاستثمارات المحلية والأجنبية، الأمر الذي يدفع المحللين إلى القول، إن ما يجري ليس مجرد اختبار قاس للعبادي وحكومته، بقدر ما هو مناسبة جديدة يدرك فيها العراقيون أقسى ثمن للراديكالية السياسية التي ورثوها عن تقاليد الأنظمة السابقة، ولم تتعرض لمراجعة حقيقية حتى الآن، لذلك فشلت كل محاولات الإصلاح لأنها لم تتضمن مراجعة لفلسفة الدولة التي سادت منذ سقوط العهد الملكي عام ١٩٥٨.