«قدرات غير عادية»!
«لو أن ثمة شيئاً غير ممتع في الفيلم فأنا المسؤول عنه»، قالها المخرج داود عبد السيد في ندوة فيلم «قدرات غير عادية»، التي أقيمت عقب عرضه العالمي الأول في الدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (10 – 17 ديسمبر 2014)، ولأسباب غامضة تأخر عرض الفيلم في صالات العرض السينمائي في مصر لمدة عام كامل إلى أن عُرض في الأيام الأخيرة من عام 2015 وقبل أن ينقضي العام كان الفيلم قد رُفع من دور العرض!لا أنكر أن سينما المخرج داود عبد السيد سينما مُجهدة ومُجتهدة لا تعرف التلقين، ولا التقديس، وقادرة دائماً على طرح الأسئلة من دون أن تتحمل عبء البحث عن إجابات لها، بل تترك هذه المهمة للمتلقي وحده، وفي هذه النقطة تحديداً تكمن صعوبة هذه السينما، وقدرتها على إثارة الدهشة، لكن يبدو أن الوجبة كانت دسمة للغاية هذه المرة، نتيجة الزخم الهائل في الأفكار التي تبناها المؤلف داود، والرسائل الكثيرة التي أثقلت كاهل المخرج عبد السيد!
كعادة داود عبد السيد يبدو مهموماً بقضية الحرية، والقهر، وحقوق الإنسان، لكنه يربط هذا الهم بغياب العلم، وإهمال البحث العلمي، من خلال بطله الدكتور «يحيى» (خالد أبو النجا) الذي يبحث في علم «باراسيكولوجي» parapsychology، أي علم ما وراء النفس أو علم النفس الموازي، الذي يبحث في الخوارق، ويسعى إلى الإجابة عن الأسئلة الدائمة حول المس الشيطاني، ودراسة القدرات غير المألوفة (من هنا جاء عنوان الفيلم) التي يملكها البعض، كالإدراك من دون استعمال الحواس الخمس، التخاطر، وتحريك الأشياء من بعد. لكن بطلنا يواجه مشاكل جمة، على رأسها وقوع المجتمع في براثن الجهل والتخلف، ومظاهر الحيل والخدع والخيالات والأوهام، وصعوبة إقناع العقلية البيروقراطية في الدولة، التي لا تؤمن بالعلم، ربما لأن المجتمع العلمي نفسه لا يعترف بوجود قدرات خارقة من هذا النوع، ويصنفها ضمن العلوم الزائفة، كونها لا تخضع للافتراضات العلمية!الربط بين قهر السلطة ونظرة الدولة إلى العلم يبدو جلياً في سخرية داود عبد السيد من الأجهزة الأمنية، كأجهزة التحري والأمن الوطني، والتنفيذية، كالعمد ومشايخ البلد، التي تأتيها الأوامر للبحث عن أصحاب القدرات غير العادية، والإبلاغ عنهم، وكأنهم {أصحاب سوابق} أو {مسجلو خطر}، وفي موضع آخر يندد المخرج باتجاه {عمر} (إسماعيل أبو الحسن)، المسؤول الكبير صاحب النفوذ في النظام السياسي الحاكم إلى استغلال الطفلة {فريدة} (مريم تامر)، التي يُشتبه في امتلاكها {قدرات غير عادية}، في حل قضاياه وحسم صراعاته، عبر انتزاع الاعترافات من المُشتبه فيهم أو المتحفظ عليهم بشكل غير إنساني وغير قانوني. ثم يرصد الفيلم أشكالاً أخرى من القهر، والتضييق على الحريات، وامتهان آدمية المواطن، وقتل البهجة في النفوس، من خلال اعتراض أصحاب اللحى على الموسيقى والرسم، واعتداء متطرفي الإسكندرية على العاملين في السيرك المتجول، ومطاردة فنانيه وحيواناته ورجمهم بالطوب، مع إغلاق النوافذ في وجوههم. واختيار الإسكندرية هنا جاء متعمداً للإيحاء بالتغيير الجذري الذي طرأ على هذه المدينة التي كانت {كوزموبوليتانية} تعيش على التنوع والتعددية، والتعايش السلمي، واندماج الثقافات والجنسيات ثم أصبحت مرتعاً للتطرف، وصارت {حياة} (نجلاء بدر) تهرب لتدافع عن حريتها، وتشعر بالخوف وهي حرة أكثر من خوفها في حال تعرضت للسجن! في هذا السياق العدائي للفن والحريات يتعمد المخرج / المؤلف اختيار أغنية {الميه والهوا} للمطربة ليلى مراد للتأكيد على قيمة الحرية، بالإضافة إلى طقطوقة {يا حلاوة الدنيا} تأليف بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد لتكريس حتمية وضرورة حب الدنيا، والاستمتاع بها، مع الحرص على أن نعيشها في جو من الود والتسامح ونبذ التعصب والكراهية والعداوة، وأن نغرس فيها مظاهر الجمال والفرحة لتحاكي الجنة، وضمن الرسائل الكثيرة التي يتبناها الفيلم يأتي التحريض على الثورة لأجل الوصول إلى المعرفة الكاملة، وضرورة التحلي بالعقل الصافي. فكلنا يملك {قدرات غير عادية} لكنها لن تغادر أعماقنا ما لم نوظفها في المكان الصحيح، وما لم نتمرد على حياة القطيع، وهي رسائل يبذل {داود} قصارى جهده للتعبير عنها بالصوت والصورة، فالكهرباء تنقطع لهدف جمالي، ونجلاء بدر ترتدي لباس البحر للإيحاء بأن الأمواج تتقاذفها، ولا تكف عن لطمها، ويبدو «بنسيون» شاطئ أبي قير في الفيلم، وكأنه امتداد لبنسيون «ميرامار» نجيب محفوظ، وحلقة الذكر أو الإنشاد الديني، هي أقرب إلى رحلة البطل من الشك إلى الإيمان، كما هي الواحة التي تنقي المشاعر وتسبر أغوار المتشككين والظمأى، ومرة أخرى يعود داود للاستعانة بالحوار الداخلي أو الراوي ليتمكن من توصيل أفكاره (فعلها سابقاً في: «أرض الخوف» و»مواطن ومخبر وحرامي») ويتحمل – أي داود - مسؤولية فشل الفيلم!