كلما اقتنيتُ كتاباً للروائية التركية (أليف شافاق) يعاودني الاستغراب من إصرار المترجم على التمويه على اسمها الأدبي، أو بالأحرى إخضاعه (للتصحيف). والتصحيف معناه التحريف أو التحوير أو استبدال حروف الكلمة، فالاسم الأول للروائية كما يرد في سيرتها الذاتية هو (ألِف) أي حرف الألف في الأبجدية العربية، أما الاسم الثاني (شافاق) فهو في حقيقته (شفق)، وهو اسم والدة المؤلفة الذي اختارته رديفاً لاسمها لأسباب تخصها. وإذا كان الاسم الأدبي بهذا الوضوح في المعنى والمبنى (ألف شفق)، فلم يصرّ المترجمون على تصحيفه مجاراة للنطق الأعجمي؟! تماماً كما تُحرّف (مريم) إلى (ميريام) و(فاطمة) إلى (فاتيما) وعبدالله إلى (عبدول)... وهلمّ جرا. وفي ظني لو أحيطت الكاتبة بهذا (التصحيف) في نسخته العربية لاختارت الأصح والأصوب في لغته ومعناه.

Ad

 من يتابع (ألف شفق) في مشروعها الروائي سيكتشف عمق ارتباطه بالتاريخ، ليس من حيث هو أحداث متراكمة وإنما من منظور كونه تجربة وكدحاً إنسانيين يزيدهما الزمن فرادة وإغراءً. إنه النبع الذي لا ينضب من الحكايات والأحلام والخرافة والحكمة والوجدانيات المعتقة والأرواح الساهرة على مشارف ذاكرة لا تنام. وحين توظف (ألف شفق) التاريخ في أعمالها فإنها غالباً ما تجعله يسير موازياً لحياتنا المعاصرة كما في رواية (قواعد العشق الأربعون)، حين يغيّر متصوّف وتلميذه عاشا في القرن الثالث عشر الميلادي بروحانيتهما الملهمة حياة امرأة أميركية معاصرة، لتعيد بعد ذلك صياغة مفردات تلك الحياة بما يتناسب وتطلعات روحها الظامئة إلى التحقق. أو يأتي توظيف التاريخ متماساً مع مشكلات آنية لا تزال تمتاح من جذور غائرة كقضايا الأقليات وصراعات الهويات الملتبسة ومشكلة العنصرية، كما في رواية (شرف). أما رواية (الفتى المتيّم والمعلم) فتلك سياحة واسعة تفتح فيها المؤلفة النوافذ على عالم النصف الثاني من القرن السادس عشر، وأما المكان فهو إسطنبول المدينة المعتقة بالأعراق والألوان والضجيج، الفائحة بالتوابل والطين والدم، والجميلة المتأنقة بالقصور والمساجد الباذخة والملطخة بالفقر أيضاً.

 ولم تكن تلك المشاهد من الأهمية بمكان لو لم يسندها ذلك العمود الذي تتبلور حوله رؤية الكاتبة، تلك الرؤية التي جعلت من موضوع (فن العمارة والبناء) عصرئذ منطلقاً للحديث عن بناء الإنسان في طموحاته وأحلامه وكدحه وأشواقه سواء في مستواه الفني/ المهني أو مستواه الوجداني والروحي. إن شخصيات مثل (سنان) و(جَهان) وهما معماريان شهيران وشخصيتان حقيقيتان، أولهما أستاذ في فنه والثاني تلميذ نجيب وموهوب حاول اقتفاء خطى معلّمه طوال مسيرته الحياتية والمهنية، هاتان الشخصيتان لم تكونا في عراك مع الحجر والمعدن والزجاج فقط، بل أيضاً كانتا تتصارعان مع أهواء النفس وانكسارات الحب وشهوة المعرفة وغلبة الكبرياء والتعامل المتزن مع الأرباح والخسارات. وكان من نتيجة هذه العِشرة الإنسانية/ المهنية إنجاز أعظم الصروح المعمارية والمساجد الباذخة في إسطنبول وحولها، والتي حملت أسماء السلاطين العثمانيين أو صدرهم الأعظم أو زوجاتهم وبناتهم، وحملت في ذات الوقت بصمات الفنانين ودموع البائسين وعرَق الكادحين وروائح طيبة أو منتنة لمؤامرات ودسائس ومظالم ربما لم تُستوفَ إلى الآن.

 ولعل أظرف ما في الرواية هو توظيف شخصية حيوان على مدى الرواية كاملة، وهو الفيل الهندي (شوتا) الذي أتى على متن سفينة إلى إسطنبول هدية لسلطانها، وكان بصحبته (جَهان) الفتى الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره حينذاك. وعلى قدر ما شاهد (جهان) في رحلة حياته المديدة والمثيرة من دروس وعبر ومباهج وكروب، كان الفيل (شوتا) يبدو الشاهد الآخر والرفيق الصدوق الذي كان له أيضاً نصيب كبير من تلك التجارب والعبر.

 رواية (الفتى المتيّم والمعلم) عبارة عن أرابيسك معماري يقع في نحو ستمئة صفحة، فيه الكثير من التفاصيل والمنمنمات «غير القابلة للتلخيص» كما يقول التقديم، وذلك بسبب اشتباكها كما تتشابك أغصان الشجرة أو كما تُرسم الوحدة الزخرفية التي يأخذ بعضها بأعناق بعض، فلا تستطيع إلا أن تتأمل في اللوحة بعمومها لتكتمل في ذهنك دائرة الفن وشبع الذائقة.