أغثني من الدكتاتورية

نشر في 12-04-2016
آخر تحديث 12-04-2016 | 00:01
في الشهر الماضي قال ميك جاجر لجمهوره الكوبي باللغة الإسبانية إن «الزمن يتغير أخيرا»، ولعله يتغير حقا، وقد عزف أوباما على وتر مماثل في خطاب الوداع في هافانا، فتحدث عن عصر جديد، «مستقبل من الأمل»، وقال لراؤول كاسترو، رجل كوبا القوي: إنه لا ينبغي له أن يخشى حرية التعبير.
 بروجيكت سنديكيت عقب الزيارة الطليعية التي قام بها رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما إلى كوبا، ربما يبدو تنظيم حفل موسيقي مجاني لفرقة رولينغ ستونز في هافانا، وكأنه حدث بسيط نسبيا. لقد أحيا أوباما العلاقات مع كوبا بعد أكثر من نصف قرن من العداء الشديد، وقد لعبت الفرقة السبعينية بعض الموسيقى الصاخبة حقا.

ولكن من الناحية النظرية، لم يكن الحفل حدثا بسيطا على الإطلاق، ولفهم أهمية أداء فرقة رولنغ ستونز أمام مئات الآلاف من الكوبيين المولعين، ينبغي لنا أن نفهم أولا ماذا كانت موسيقى الروك آند رول تعني للناس الذين كانوا يعيشون في ظل الدكتاتوريات الشيوعية.

في سبعينيات القرن العشرين على سبيل المثال، كانت تشيكوسلوفاكيا، مثلها كمثل غيرها من الدول الشيوعية، مكانا كئيبا قمعيا قابضا للصدر، حيث كان أعضاء الحزب الفاشلين يحددون الاتجاه العام، وكان الإبداع مخنوقا تحت غطاء من الانسياق القسري، وكانت موسيقى الروك آند رول تُعَد شكلا بغيضا من أشكال الانحطاط الرأسمالي. حتى أن السلطات اعتقلت في أواخر السبعينيات أفراد فرقة روك آند رول محلية تدعى "ناس الكون البلاستيكي" كانت تؤدي باللغة الإنكليزية بتهمة "التكدير المنظم للسِلم". وكانت تسجيلات فرقة رولنغ ستونز وغيرها من الفرق الغربية محظورة.

ورغم ذلك كانت الأسطوانات تُهَرَّب إلى تشيكوسلوفاكيا وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية، حيث اكتنزها الشباب من عشاق موسيقى الروك، وكان منهم الكاتب المسرحي المنشق فاتسلاف هافل الذي أصبح في وقت لاحق رئيساً للبلاد. وكانت الأصوات المحرمة، الصاخبة والفوضوية والمثيرة جنسيا، توفر سبيلا للهروب من كآبة الحياة المعتادة الخاضعة للرقابة الشرطية المشددة. وسمحت موسيقى الروك للناس بتخيل حياة الحرية، ولو للحظات عابرة، ولهذا السبب كانت السلطات تعتبرها تخريبية.

كان عشاق موسيقى الروك في الديمقراطيات الغربية يستمعون إلى فِرَق مثل رولينغ ستونز، أو فيلفيت أندر غراوند، أو "أمهات الاختراع" لفرانك زابا، على سبيل الترفيه والمتعة، وكان هناك قدر من التبجح السياسي بين نجوم الروك بكل تأكيد، ولكن هذا كان يعتبر على نطاق واسع مجرد تظاهر عابث، ولم تكن هذه هي الحال في دول مثل تشيكوسلوفاكيا، حيث كانت الموسيقى ذاتها، أكثر من المواقف، تعبيرا عن التمرد. والواقع أن الدفاع عن فرقة "ناس الكون البلاستيكي" تحول إلى قضية عامة للمنشقين مثل هافل، وهي القضية التي قادت في نهاية المطاف إلى ظهور حركة الميثاق 77 في تشيكوسلوفاكيا.

عندما عَرَض هافل على زابا دورا رسميا في حكومته الديمقراطية بعد سقوط النظام الشيوعي، كان زابا مندهشا كأي شخص آخر، ولكن ذلك أظهر كم كانت موسيقاه تعني بالنسبة إلى الناس من أمثال هافل، عندما كانوا مضطرين إلى الاستماع إليها سِرا، وتعريض أنفسهم للاعتقال.

وقد جاء الدور الذي أدته موسيقى الروك في بلدان ما وراء السِتار الحديدي مصورا بشكل درامي جميل في مسرحية الكاتب توم ستوبارد "روك آند رول" عام 2006، حيث يمجد الممثل الذي يؤدي دور شخصية شبيهة بهافل، باسم فرديناند (وهو الاسم الذي يَرِد في مسرحيات هافل ذاتها)، الموسيقى بوصفها شكلا أسمى من أشكال المقاومة السياسية. ويسخر أشخاص آخرون في المسرحية من هذه الفكرة، فيتعاملون مع التخريب الموسيقى باعتباره تفاهة. ومن الواضح أن ستوبارد، مثله كمثل هافل، لا يوافقهم الرأي، إذ تنتهي المسرحية بحفل فريق رولينغ ستونز التاريخي الذي أقيم في براغ عام 1990.

تتسم موسيقى الروك بإثارة البهجة والنشوة، وتسمح النشوة للناس بإطلاق العنان لأنفسهم، وليس هذا بالأمر الحميد دائما، إذ كانت الهستيريا الجماعية في مسيرات النازيين شكلا من أشكال النشوة أيضا، ويصدق القول نفسه على سلوك مشجعي كرة القدم، الذي قد يتحول إلى العنف أحيانا.

وقد شاهدت ذات يوم مجموعة من مواطني سنغافورة المحترمين يطلقون لأنفسهم العنان في قُدَّاس للكنيسة الإنجيلية، فبتشجيع من واعظ ياباني متحمس، بدأ رجال يرتدون سترات رمادية يتلوون على الأرض، ويخرج الزبد من أفواههم، ويثرثرون بهراء. ولم يكن مشهدا جميلا، بل كان في واقع الأمر مخيفا، ولكن الواعظ الياباني لم يكن مخطئا عندما زعم أن الناس، وخاصة اليابانيين والسنغافوريين "المزررين" على حد تعبيره أمام جماعته، يحتاجون في بعض الأحيان إلى الإعفاء من الامتثال اليومي المتكرر.

صحيح أن النشوة التي تبثها الموسيقى ليست كمثل التكلم بألسنة في نوبة سُعار ديني، ولكن التجارب متماثلة، ولهذا السبب، كثيرا ما يكون الأوصياء الرسميون على النظام الاجتماعي حريصين على حظر مثل هذه الممارسات.

الواقع أن أفلاطون حَذَّر في عام 380 قبل الميلاد من الابتعاد عن الأشكال التقليدية للموسيقى، فيقول في كتاب "الجمهورية" إن الإبداع الموسيقي، وخاصة الأصوات الجديدة المثيرة، يشكل خطرا على مدينة بوليس، وكان يعتقد أن الفوضى تبدأ بأشكال غير تقليدية من الترفيه الموسيقي، فنصح السلطات بمنع مثل هذه الأمور.

في الشهر الماضي، قال ميك جاجر لجمهوره الكوبي باللغة الإسبانية إن "الزمن يتغير أخيرا"، ولعله يتغير حقا، وقد عزف أوباما على وتر مماثل في خطاب الوادع في هافانا، فتحدث عن عصر جديد، "مستقبل من الأمل"، وقال لراؤول كاسترو، رجل كوبا القوي، وهو أكبر سنا من جاجر بنحو عشر سنوات ومن أوباما بنحو ثلاثين سنة، إنه لا ينبغي له أن يخشى حرية التعبير.

وهي كلمات جميلة، ولكن الحرية السياسية الحقيقية في كوبا ربما تأتي ببطء، ويُظهِر مثال الصين أن مذهب المتعة الفردية يمكن بسهولة الجمع بينه وبين الاستبداد السياسي. (قدمت فرقة رولينغ ستونز بالفعل عروضها في شنغهاي، ولو أن السلطات الصينية أصرت على مراجعة الأغاني أولا). ولكنها بداية. فقد وصلت موسيقى الروك آند رول رسميا إلى كوبا، وقد أبدى جاجر القدر الواجب من الاحترام لتقاليد النشوة الموسيقية الخاصة بكوبا، والواقع أن أهل كوبا يعرفون بالفعل كيف يرقصون، ولابد أن تكون الخطوة التالية الأكبر هي أن يبدأ الحكام المستبدون تحريك أقدامهم على الأرض.

* إيان بوروما | Ian Buruma ، أستاذ الديمقراطية وحقوق الإنسان والصحافة في بارد كوليدج، وهو مؤلف كتاب "العام صِفر: تاريخ من 1945".

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top